عندما علمت للمرة الأولى بخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الممثلة في مشروع تحويل قطاع غزة المدمر إلى «ريفييرا الشرق الأوسط»، أعاد ذلك إلى ذهني ذكريات الآمال التي كانت لدى الفلسطينيين قبل ثلاثة عقود في ذروة أوج اتفاقيات أوسلو عام 1993.
في تلك الفترة كنت أشغل منصب الرئيس المشارك في مشروع «بناة السلام»، وهو المشروع الذي أطلقه نائب الرئيس الأمريكي آنذاك آل جور لتشجيع الشركات الأمريكية على الاستثمار في الاقتصاد الفلسطيني من أجل دعم عملية السلام الناشئة.
وخلال فترة عملنا في منظمة «بناة السلام» التي استمرت ثلاث سنوات ترأسنا عددًا من وفود الأعمال الأمريكية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، ورافقنا آل جور نفسه ووزير التجارة آنذاك رون براون في زيارات أخرى، وقد لاقت تلك الزيارات ترحيبًا حارًا من قادة الأعمال الأمريكيين والفلسطينيين.
وخلال تلك الزيارات المتتالية تم مناقشة خطط لتطوير عدة مصانع في قطاع غزة لتجميع الأمتعة والأثاث للتصدير إلى أوروبا الشرقية؛ وفتح فروع لشركات أمريكية في الضفة الغربية.
وبالإضافة إلى ذلك تم مناقشة مشاريع تنقية المياه وإعادة تدوير النفايات في غزة، ومشروع بناء مجمع سكني جديد بأسعار معقولة في الضفة الغربية، وقد حظيت هذه المشاريع بدعم كلٍّ من الرئيس الأمريكي ونائبه، بالإضافة إلى الدعم الحماسي من الوزير رون براون.
ومع ذلك، فقد انهارت جميع تلك المشاريع لأسباب عديدة. يكفي ذكر بعض الأمثلة: لن تضمن إسرائيل للفلسطينيين ولا لشركائهم الأمريكيين المقصودين الحق في استيراد المواد الخام أو تصدير المنتجات النهائية بحرية إلا بوجود وسيط إسرائيلي كشريك. وبسبب التكاليف المرتفعة التي ستترتب على ذلك، فقد المستثمرون الأمريكيون المحتملون اهتمامهم بتلك المشاريع.
كذلك كانت القيود المفروضة على حركة الفلسطينيين والتجارة بين الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل الضفة الغربية نفسها عاملاً آخر من العوامل التي أدت إلى تثبيط الاستثمار الأجنبي.
وهذا يعني أن المؤسسات الفلسطينية لن تتمكن من الاستفادة من اقتصادات من الحجم الكبير التي قد تأتي من تطوير السوق الداخلي، ومن ثم ستظل معتمدة على الواردات من إسرائيل.
كما تبين أيضا أن الجانب الإسرائيلي مصمم على ألا يسمح أبدا للفلسطينيين بفتح أعمال تجارية أو إنشاء فروع لشركات أمريكية من شأنها أن تنافس الشركات الإسرائيلية.
وقد تناول رون براون هذه المسألة الأخيرة، فذكّر الإسرائيليين مراراً وتكراراً بأنهم لا يستطيعون منع الشركات الأمريكية من إنشاء مشاريع تجارية مع شركاء فلسطينيين لأن الأراضي المحتلة فلسطينية وليست إسرائيلية.
وخلال زياراتنا لهذه الأراضي، لاحظت وفودنا من منظمة «بناة السلام» العديد من هذه المشاكل، وفي زيارتنا الرسمية الأولى سعينا للدخول عبر جسر اللنبي من الأردن.
في ذلك اليوم، نجح قادة الأعمال اليهود الأمريكيون وغيرهم في المرور وإتمام الإجراءات بكل يسر وسهولة، في حين تم فصل أولئك الذين هم من أصل عربي عن المجموعة وإجبارهم على الخضوع للتفتيش وتدقيق الهوية، وهو ما كان بمثابة تجربة مهينة.
لقد عقدنا جلسة في القدس ليتسنى للفلسطينيين لقاء الأمريكيين المهتمين بفرص الاستثمار. لقد اكتشفنا أنه من أجل دخول مدينة القدس، كان على الفلسطينيين الحصول على تصريح من سلطة الاحتلال الاسرائيلية.
وبما أن التصاريح لم تسمح لهم سوى ببضع ساعات في المدينة، فقد كان الوقت الذي خصصوه لنقاشاتنا محدودًا، كما كان الدخول إلى غزة والخروج منها بنفس القدر من الصعوبة والتعقيد.
لا يزال مشهد مغادرة غزة عالقًا في ذهني.
فقد كان هناك ما لا أستطيع وصفه إلا بعبارة «حظائر الماشية المليئة» بمئات الرجال الفلسطينيين الذين ينتظرون تحت الشمس الحصول على إذن لدخول إسرائيل للعمل.
كان جنود إسرائيليون شباب يصعدون فوق المظلات، ويصرخون على الفلسطينيين في الأسفل، ويأمرونهم بالنظر إلى الأسفل ورفع بطاقاتهم فوق رؤوسهم. لقد كان الأمر مزعجا ومهينا للغاية.
ورغم تلك المشاكل، ظلّ الأملُ الدائمُ لدى رجال الأعمال الفلسطينيين الذين كنا نعمل معهم يمثل دافعًا يحفزنا رغم العراقيل. وفي الذكرى الأولى لتوقيع اتفاقيات أوسلو، عقد السيد آل جور مؤتمرًا صحفيًا لتقديم تقريرٍ عن التقدم الذي أمكن تحقيقه؛ فقد أعلن يومها عددا من مشاريع الشراكة الأمريكية الفلسطينية التي ساعدت منظمة «بناة السلام» في الترتيب لها.
وكان أحد المشاريع الواعدة بصورة كبيرة هو الاقتراح الذي تقدمت به شركة فلسطينية أمريكية مقرها في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة لبناء منتجع ماريوت على شاطئ قطاع غزة.
وكان من المقرر أن يكون الفندق منتجعاً ومركزاً للأعمال مكوناً من 275 غرفة، وكان من المتصور أن يكون بمثابة عامل جذب يساعد في استقطاب الشركات الأخرى إلى غزة.
لقد كان من شأن ذلك المشروع، كما صُمم، أن يوظف أكثر من ألف فلسطيني في بنائه، ومئات آخرين عند اكتماله، وقد حظي المشروع بتأييد الوزير براون، الذي كان أحد أبرز داعمي مبادرة السلام الأمريكية، كما حظي المشروع بدعم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، حيث اعتبر كلاهما أن الفندق بمثابة حجر الأساس للنمو الاقتصادي المستقبلي.
بعد تأمين الاستثمار الأولي بدأت الشركة الراعية أعمال البناء، بدءًا من الأساسات ومرآب سيارات ضخم. ونظرًا إلى المخاطر التي ينطوي عليها المشروع، سعت الشركة للحصول على تأمين ضد المخاطر من مؤسسة (OPIC)، وهي وكالة أمريكية أُنشئت لضمان تأمين الاستثمار ضد المخاطر.
في النهاية، تبيّن أن العراقيل الإسرائيلية أمام التنمية الفلسطينية أكبر من أن يتم تجاوزها أو التغلب عليها. ونتيجة لذلك، تم صرف النظر عن تلك الشراكات المقترحة، ومعها تعثر حلم الاقتصاد الفلسطيني المستقل وعملية السلام.
وفي مثل تلك البيئة المشحونة بالعراقيل والصعوبات لم يتمكن مشروع ماريوت من الحصول على التأمين اللازم ضد المخاطر، وهو ما تطلب الأمر البحث عن استثمار جديد. بعد ذلك ما لبث المشروع هو الآخر أن انتهى وتلاشى.
لذلك، كان من المؤلم في الأسابيع الأخيرة أن نسمع بخطة الرئيس ترامب المهينة لبناء ريفييرا غزة المملوكة أمريكيًا. لقد ذكّرتني هذه الخطة بما كان من الممكن أن يكون، ولكنه يُناقش الآن، بعد ثلاثة عقود، من دون أن يستفيد أي فلسطيني من تطوير ذلك.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك