العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ورُبَّ ضارة نافعة

كتبت‭ ‬تلميحا‭ ‬وتصريحا‭ ‬أنني‭ ‬استحق‭ ‬لقب‭ ‬مناضل،‭ ‬الذي‭ ‬يفوز‭ ‬به‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يدخل‭ ‬السجن‭ ‬بدون‭ ‬حكم‭ ‬قضائي‭ ‬يدينه‭ ‬في‭ ‬امر‭ ‬جنائي‭ ‬او‭ ‬مدني،‭ ‬لأن‭ ‬حكومة‭ ‬المشير‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ ‬اعتقلتني‭ ‬ورمتني‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬لـ8‭ ‬أشهر،‭ ‬ولم‭ ‬تقل‭ ‬لي‭ ‬‮«‬لماذا؟‮»‬،‭ ‬ونلت‭ ‬حريتي،‭ ‬وكانت‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬خروجي‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬من‭ ‬أخصب‭ ‬فترات‭ ‬حياتي،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬بلا‭ ‬عمل،‭ ‬ولكنني‭ ‬كنت‭ ‬أتقاضى‭ ‬راتبي‭ ‬الأساسي‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬التربية،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭  ‬نقطة‭ ‬تحول‭ ‬في‭ ‬تكويني‭ ‬الثقافي،‭ ‬فقد‭ ‬استأجرت‭ ‬غرفة‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري،‭ ‬سبقني‭ ‬إليها‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬زملائي‭ ‬السابقين‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬كوبر‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الأقاليم‭ ‬النائية،‭ ‬وكان‭ ‬بالطابق‭ ‬الأرضي‭ ‬للعمارة‭ ‬مطعم‭ ‬وكنت‭ ‬من‭ ‬ثم‭ ‬أحصل‭ ‬على‭ ‬خدمات‭ ‬طعام‭ ‬فندقية،‭ ‬أي‭ ‬ان‭ ‬الوجبات‭ ‬كانت‭ ‬تأتيني‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬غرفتي‭ (‬روم‭ ‬سيرفيس‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬قط‭ ‬ان‭ ‬تناولت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وجبتين‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الواحد‭ ‬طوال‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬العمارة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬بالغرفة‭ ‬أثاث‭ ‬سوى‭ ‬سرير‭ ‬وتربيزة‭ (‬طاولة‭) ‬صغيرة،‭ ‬وكنت‭ ‬أعلق‭ ‬ملابسي‭ ‬على‭ ‬مسامير‭ ‬مثبتة‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬الغرفة،‭ ‬وكانت‭ ‬أرضية‭ ‬الغرفة‭ ‬مغطاة‭ ‬بالكتب‭. ‬كان‭ ‬كتاب‭ ‬ما‭ ‬يشدني‭ ‬فأظل‭ ‬أقرأ‭ ‬فيه‭ ‬حتى‭ ‬انتهي‭ ‬منه،‭ ‬وهكذا‭ ‬كنت‭ ‬أحيانا‭ ‬أفرغ‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬تسعة‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬الواحد،‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬فقدت‭ ‬الإحساس‭ ‬بالزمن،‭ ‬فلأن‭ ‬الغرفة‭ ‬مضاءة‭ ‬24‭ ‬ساعة‭ (‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بها‭ ‬سوى‭ ‬نافذة‭ ‬صغيرة‭ ‬تسمح‭ ‬فقط‭ ‬بمرور‭ ‬جرعات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬الأوكسجين‭)‬،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحس‭ ‬بدخول‭ ‬الليل‭ ‬او‭ ‬الصباح‭ ‬إلا‭ ‬بالنظر‭ ‬الى‭ ‬الساعة،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬استيقظت‭ ‬من‭ ‬نومة‭ ‬طويلة‭ ‬لاكتشف‭ ‬ان‭ ‬الساعة‭ ‬بلغت‭ ‬الثالثة‭ ‬فجرا،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬انني‭ ‬كنت‭ ‬أنام‭ ‬حسب‭ ‬التساهيل‭ ‬أحيانا‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬مساء،‭ ‬بل‭ ‬وأحيانا‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬عصرا‭ ‬لأجد‭ ‬نفسي‭ ‬نشطا‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الليل،‭ ‬ويعصر‭ ‬الجوع‭ ‬مصاريني‭ ‬فأنبش‭ ‬جنبات‭ ‬الغرفة‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬تمر‭ ‬او‭ ‬بسكويت،‭ ‬ثم‭ ‬اكتشفت‭ ‬أمر‭ ‬سيدة‭ ‬تبيع‭ ‬اللقيمات‭ ‬والشاي‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬قرب‭ ‬المطعم،‭ ‬وجلّ‭ ‬زبائنها‭ ‬من‭ ‬العمال‭ ‬المتوجهين‭ ‬الى‭ ‬المنطقة‭ ‬الصناعية‭.. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬اكتشافا‭ ‬مهما‭ ‬لأنني‭ ‬أحب‭ ‬اللقيمات‭ ‬ولأنني‭ ‬صرت‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬إسكات‭ ‬عواء‭ ‬مصاريني‭ ‬عند‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬الفجر‭ ‬الباكر‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬المطعم‭ ‬مغلقا‭.‬

وفي‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬قرأت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬السودان،‭ ‬ووقعت‭ ‬في‭ ‬غرام‭ ‬علم‭ ‬الأنثروبولوجي‭ (‬تطور‭ ‬الأجناس‭ ‬البشرية‭ ‬وأعراقها‭ ‬وعاداتها‭ ‬إلخ‭)‬،‭ ‬وتعرفت‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الروائيين‭ ‬الأمريكان‭ ‬وكنت‭ ‬قبلها‭ ‬لا‭ ‬أقرأ‭ ‬إلا‭ ‬لكتاب‭ ‬بريطانيين‭. ‬وذات‭ ‬صباح‭ (‬يا‭ ‬فتاح‭) ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬غرفتي‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬العمارة‭ ‬قاصدا‭ ‬محطة‭ ‬الشاي‭ ‬واللقيمات،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬سلم‭ ‬العمارة‭ ‬مضاء،‭ ‬وفجأة‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬‮«‬أغرق‮»‬‭. ‬أي‭ ‬والله‭ ‬العظيم‭. ‬انزلقت‭ ‬رجلي‭ ‬ووجدت‭ ‬نفسي‭ ‬مغمورا‭ ‬بالماء‭ ‬فصرخت‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬المفاجأة‭. ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬كابوس‭ ‬أم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أقضي‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬مركب‭ ‬على‭ ‬النيل‭ ‬ونزلت‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬وفي‭ ‬جفوني‭ ‬بقية‭ ‬من‭ ‬نوم؟‭ ‬سعدت‭ ‬لأنني‭ ‬وجدت‭ ‬رجلي‭ ‬ثابتة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بينما‭ ‬وصل‭ ‬الماء‭ ‬إلى‭ ‬خاصرتي‭. ‬تلمست‭ ‬طريقي‭ ‬الى‭ ‬السلم‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬فقدان‭ ‬توازن‭ ‬عقلي‭ ‬وجسماني،‭ ‬وصعدت‭ ‬الى‭ ‬أعلى‭ ‬ووقفت‭ ‬عند‭ ‬شرفة‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬الغرف‭ ‬وألقيت‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬الشارع‭ ‬الرئيسي‭ ‬وانتبهت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬البلد‭ ‬كلها‭ ‬غارقة‭ ‬وأن‭ ‬أمطارا‭ ‬عنيفة‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تجلد‭ ‬الساحات‭ ‬والبنايات‭. ‬وأدركت‭ ‬أن‭ ‬المياه‭ ‬تسربت‭ ‬الى‭ ‬الطابق‭ ‬الأرضي‭ ‬من‭ ‬العمارة‭ ‬وغمرته‭. ‬وبعد‭ ‬نحو‭ ‬عشر‭ ‬ساعات‭ ‬قررت‭ ‬الخروج‭ ‬لتفقد‭ ‬أحوال‭ ‬أهلي‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬ولكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تراجعت‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬القرار‭ ‬لاستحالة‭ ‬الوصول‭ ‬الى‭ ‬أي‭ ‬موقع‭ ‬بدون‭ ‬قارب‭.. ‬كانت‭ ‬أمطارا‭ ‬استثنائية‭ ‬دمرت‭ ‬آلاف‭ ‬البيوت‭.. ‬ولم‭ ‬يفتح‭ ‬المطعم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الأرضي‭ ‬أبوابه‭ ‬طوال‭ ‬يومين‭ ‬واختفت‭ ‬بائعة‭ ‬الشاي‭ ‬واللقيمات‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام،‭ ‬وكنت‭ ‬سأهلك‭ ‬جوعا‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬أقاربي‭ ‬أتوني‭ ‬بمواد‭ ‬تموينية‭ ‬على‭ ‬شاحنة‭ ‬ثم‭ ‬اقتادوني‭ ‬معهم‭ ‬محتجين‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬شخص‭ ‬مقطوع‭ ‬من‭ ‬شجرة‮»‬‭ ‬بينما‭ ‬بيوتهم‭ ‬مفتوحة‭ ‬أمامي‭ ‬في‭ ‬المدينة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا