جاء إطلاق القمر الصناعي البحريني، «المنذر»، ليكشف عن مسار طويل الأمد للاستثمار في اقتصاد المستقبل، يعكس رؤية جلالة الملك، بأن «المواطن هو أغلى ثروات المملكة»، وبأن الاستثمار فيه هو استثمار في بناء المستقبل»، ومحور هذا الاستثمار هو أعمدة التنمية البشرية. ولهذا، كرست المملكة معظم إيراداتها للإنفاق على هذه التنمية، وجعلت من التعليم الذي حققت فيه سبقًا خليجيًا قاطرة التنمية الشاملة، لجهة وضع البحرين في مصاف الدول المتقدمة.
وفي رؤية جلالة الملك، لا يقتصر التعليم على نمطه التقليدي، لكنه ذلك المُتَوجه لجسر الفجوة التكنولوجية، والإمساك بالمعارف الحديثة، وانطلاقًا من هذه الرؤية، بادر منذ عام 2005 بإطلاق مشروع «مدارس المستقبل»، الذي يدمج التعليم بثورة المعلومات والاتصالات، ليكون خطوة رائدة في إصلاح المنظومة التعليمية، وقد توسع هذا المشروع ليشمل 208 مدارس حكومية، وفضلاً عن أنه يوفر النوعية المطلوبة لسوق العمل، فإنه يمكن خريجيه من التعامل مع ثورة العصر، وينقل التعليم من المنظور التقليدي المحدود زمانًا ومكانًا إلى التعليم المستمر خارج المدرسة عبر التعلم الإلكتروني، وقد أتبع الملك هذا المشروع بمبادرة «مدارس التمكين الرقمي»، التي تمكن المملكة من التعامل مع مستجدات التحول العالمي نحو الرقمنة، وأبعاد الثورة الصناعية الرابعة، والمساهمة في خلق مجتمع المعرفة، ودفع عملية التحول من استهلاكها إلى إنتاجها.
ولهذا، لم يكن غريبًا بعد أن تكّون في المملكة جيل له القدرة على مواكبة التطورات التكنولوجية، أن يتمكن مهندسو البحرين وفنيوها وعلماؤها من إطلاق القمر الصناعي «المنذر»، إلى مداره المخصص له في كاليفورنيا يوم 15 مارس، وبه دخلت نادي الأقمار الصناعية، حيث تم تصميمه وتطويره بالكامل داخل البحرين بأياد بحرينية، وفضلاً عما يجلبه من معلومات، فإنه يحللها مستخدمًا الذكاء الاصطناعي، كما يقوم بدوره في حماية الاتصالات، ومن ثمّ، دعم الأمن السيبراني، إضافة إلى دوره في البث الإعلامي، وتتولى «الهيئة الوطنية للفضاء»، إدارته بالكامل من داخل البحرين.
وكان هناك أربع خطوات متشابكة ساعدت في ظهور هذا الإنجاز هي: «إنشاء الهيئة الوطنية لعلوم الفضاء»، و«إطلاق الاستراتيجية الوطنية للبحث العلمي»، و«الاستراتيجية الوطنية للتعليم العالي»، و«استراتيجية قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات»، بدايةً بملحمة طويلة من العمل العلمي والتجارب قامت بها «الهيئة الوطنية البحرينية لعلوم الفضاء»، التي بادر جلالة الملك ، بإنشائها بالمرسوم الملكي رقم 11 لسنة 2014 بعد تسع سنوات من بدء مشروع مدارس المستقبل، وبعد أن أخذ هذا المشروع يؤتي ثماره، ويوفر كوادر يمكن الثقة في قدرتها على تطوير مثل هذا العمل.
وجاء إنشاء «الهيئة»، لتعزيز مكانة البحرين والوصول بها إلى مصاف الدول المتقدمة في مجال علوم الفضاء، بما يخدم التنمية الشاملة والمستدامة. ومنذ قيامها، ركزت على تسخير علوم وتقنيات الفضاء في خدمة التنمية الوطنية، وعملت على بناء القدرات البحرينية وتأهيلها للمشاركة في هذا المجال، وهي تعمل بشكل وثيق مع مختلف الجهات الحكومية لتحديد احتياجاتها، والأكاديمية لتعزيز البحث والابتكار والتطوير في مجالات علوم الفضاء المتنوعة.
وبالتعاون مع «جامعة البحرين»، أنشأت «الهيئة»، مختبر الأقمار الصناعية، الذي يُمكِّن أعضاء فريق الفضاء البحريني -الذي تكون من القدرات الوطنية - من استكمال دراساتهم العليا التخصصية في هندسة علوم الفضاء، والانضمام إلى خبراء بحرينيين آخرين في تصميم وبناء وتشغيل الأقمار الصناعية، كما أنشأت «مختبرًا لمعالجة بيانات الفضاء، وصور الأقمار الصناعية»، والذي يحلل وينتج البيانات المكانية، ويتيح أيضًا منشورات تترجم البيانات الجغرافية. علاوة على ذلك، قام هذا الفريق الوطني بتقديم ونشر العديد من الأوراق العلمية، وشارك في بناء وتصميم القمر الصناعي الإماراتي «ظبي سات»، كما شارك مهندسو الطيران البحرينيون في تنفيذ مجموعة من الاختبارات والتحليلات للتأكد من سلامة هيكل القمر. وفي ديسمبر 2021، تمكن أعضاء فريق البحرين للفضاء من تنفيذ أول قمر صناعي بحريني إماراتي مشترك يحمل اسم «ضوء 1»، تيمنًا بكتاب الضوء الأول لجلالة لملك.
ومن الجدير بالذكر، أن أول دولة في العالم أطلقت قمرًا صناعيًا، كان الاتحاد السوفيتي عام 1957، تلتها الولايات المتحدة في 1958، أما أول دولة إسلامية فكانت إندونيسيا عام 1976، وأول دولة شرق أوسطية هي تركيا في 1994، بينما سجلت مصر السبق عربيًا عام 1998، والسعودية خليجيًا في 2000، تلتها الإمارات في العام نفسه، ثم قطر في 2013 وسلطنة عُمان في نوفمبر 2024. وقد باتت السعودية تمتلك اليوم 17 قمرًا صناعيًا، فيما تمتلك الإمارات 14 قمرًا، وفي سياق عالمي يقدر عدد الأقمار الصناعية بـ5500 قمر، تملك الولايات المتحدة النصيب الأكبر منها بـ 3415 قمرًا، تليها الصين بـ 535 قمرًا، ثم المملكة المتحدة بـ 486 قمرًا، ويظل البعد الاقتصادي هو الهدف الأبرز لهذه الأقمار، حيث يمثل 74% من إجمالي عددها، بواقع 4047 قمرًا.
وتزامنًا مع إنشاء «الهيئة الوطنية لعلوم الفضاء»، وبما يخدم عملها، كان إطلاق «الاستراتيجية الوطنية للبحث العلمي 2014 - 2024»، في إطار رؤية البحرين الاقتصادية 2030، التي عدت البحث العلمي «عنصرًا أساسيًا»، في نقل الاقتصاد من اقتصاد قائم على الثروة الطبيعية إلى اقتصاد منتج قادر على المنافسة عالميًا. وقد سعت الاستراتيجية للإسهام بشكل مباشر في تقليل الاعتماد على موارد البحرين الطبيعية، وضمان رفاه المملكة الاجتماعي والبيئة والثقافي على المدى البعيد، وتحسين وصول البحوث العلمية الصحية لمعالجة الاحتياجات الطبية الفريدة للمواطنين البحرينيين، وتعزيز مكانة المملكة وسمعتها إقليميًا وعالميًا، وتوفير فرص محلية ذات مستوى عالي للبحرينيين في التعليم والبحث العلمي.
وقد حددت الاستراتيجية أولوياتها البحثية وفقًا لاحتياجات البحرين الاقتصادية والاجتماعية والصحية، مع التركيز على تعزيز الارتباط بقطاع الصناعة، وإدماج البحوث العلمية الأساسية، فيما ركزت على ثلاثة مجالات ذات أولوية قصوى، هي: الخدمات المالية والمصرفية الإسلامية والتمويل والتأمين، والخدمات الصحية والصحة العامة والطب الانتقالي، إلى جانب تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وتعزيزًا لدور الهيئة الوطنية لعلوم الفضاء، تم إطلاق «الاستراتيجية الوطنية للتعليم العالي 2014-2024»، التي استهدفت جعل البحرين مركزًا إقليميًا رائدًا في التعليم العالي، عبر تقديم تعليم ذي جودة عالية يسهم في إعداد خريجين مزودين بالمهارات والمعارف والسلوكيات اللازمة للنجاح في الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة، والمساهمة في استدامة النمو الاقتصادي، ورفع القدرة التنافسية للمملكة. وقد وضعت الاستراتيجية هدفًا رئيسيًا يتمثل في تمكين خريجي التعليم العالي بحلول عام 2024 من المنافسة في سوق العمل العالمي، عبر تزويدهم بالمهارات المطلوبة، وتعزيز قدراتهم في الابتكار والمرونة وريادة الأعمال، إلى جانب تنمية مهاراتهم في التواصل والتعاون الفعّال.
وفي ضوء النتائج المحققة من تنفيذ استراتيجية البحث العلمي، واستراتيجية التعليم العالي، أطلقت المملكة، «استراتيجية قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والاقتصاد الرقمي 2022 – 2026»، بأربعة محاور رئيسية هي: «تطوير البنية التحتية لقطاع الاتصالات»، و«دعم الاقتصاد الرقمي»، و«تطوير الحوكمة الإلكترونية»، و«تطوير القدرات الرقمية»، مستهدفة 100% نسبة تغطية للشبكة الوطنية للنطاق العريض في جميع أنحاء المملكة، وتحقيق حد أدنى إضافي للأتمتة 200 خدمة حكومية، ورفع نسبة الكوادر الوطنية للعاملين في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بنسبة 35%، والوصول بعدد القدرات الوطنية في مجال الأمن السيبراني إلى 20 ألفا. بالإضافة إلى ذلك، فقد سعت إلى تعزيز وزيادة كفاءة الخدمات الحكومية عبر التحول الإلكتروني للخدمات، والتوسع في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، لإيجاد طرق مبتكرة لتقديم الخدمات الحكومية، ورقمنة الوثائق والمستندات الحكومية، والتحول الإلكتروني للمدفوعات، وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص في تطوير أداء الخدمات الحكومية.
وقد وفرت الاستراتيجيات الثلاثة الكوادر الوطنية التي أتاحت إطلاق القمر الصناعي البحريني «المنذر»، الذي لم يأت مصادفة، بل نتاج سنوات من التخطيط المدروس، والتعاون مع أهم الجهات المتخصصة في علوم الفضاء، مثل وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا»، غير أن المؤشر الأبرز في هذا الإنجاز، هو قدرة الكوادر البحرينية على تبني وتوظيف أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا، كما أبرز الإطلاق التعاون الوثيق بين مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها قوة دفاع البحرين، ووزارات الداخلية، والخارجية، والمالية، والاقتصاد الوطني، والإعلام، والمواصلات، وهيئة تنظيم الاتصالات، ومركز الاتصال الوطني، كما شاركت بعض الشركات الناشئة في تصميم بعض مكونات القمر الصناعي، ما يؤكد قدرة القطاع الخاص المحلي على تلبية متطلبات تطوير التكنولوجيا الحديثة.
على العموم، يمثل القمر الصناعي «المنذر»، «خطوة مهمة»، في الاستثمار في مستقبل الاقتصاد الرقمي، حيث يسهم في تقديم بيانات الإنذار المبكر للتغيرات المناخية، مما يدعم قطاعات حيوية، مثل الزراعة، والصيد البحري، والملاحة، والتجارة الخارجية، كما يوفر معلومات تخطيط عمراني تدعم التوسع الإسكاني، والتجاري، والصناعي، إلى جانب دوره في تعزيز الأمن السيبراني، كما أنه عنصر أساسي لقطاع الخدمات المالية، ما يعزز مكانة البحرين في هذا المجال.
بالإضافة إلى ذلك، يسهم القمر في تحليل البيانات المتعلقة بالأمن المائي، ويدعم الاقتصاد الرقمي والابتكار، فضلًا عن دوره في خدمة الأمن الوطني بأبعاده المختلفة، كما يساعد في نقل صوت البحرين إلى العالم، من خلال توفير بيانات دقيقة من مصدرها، والحد من المعلومات المشوهة، كما يزيد الطلب على دراسة تقنيات الذكاء الاصطناعي وما تخلقه من وظائف ذات أجور عالية، ويفتح المجال للمشاركة في مشاريع فضائية دولية، فيما يعد إطلاقه مقدمة مشاريع فضائية بحرينية أكبر تمتد إلى مدارات أبعد.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك