مفارقة جديرة بالتأمل لا ينبغي إغفالها. فإسرائيل تعتقل الفلسطينيين وتتهمهم بالإرهاب، وأمريكا هي الأخرى تعتقلهم ومعهم كل أمريكي ناهض الإبادة الجماعية وتتهمهم «بالإرهاب». فلم تكن مصادفة أن يقول نائب وزير الأمن الداخلي الأمريكي إن اعتقال محمود خليل، الفلسطيني خريج جامعة كولومبيا، سببه أنه ضالع في الاشتراك في «أنشطة إرهابية». وحين كرر محاوره السؤال، لم يتمكن نائب الوزير من تقديم دليل واحد ضد خليل سوى أنه شارك في «أنشطة تدعم الفلسطينيين» وصفها بأنها أنشطة «مرتبطة بحماس». والشاب، بالمناسبة، لم تُوجَّه له اتهامات حتى كتابة هذه السطور.
فإسرائيل، التي خسرت معركة الرأي العام العالمي، لم يعد أمامها إلا استخدام القوة لإسكات الأصوات التي تحررت من دعايتها الكاذبة بشأن فلسطين. والولايات المتحدة لها مصلحة أكيدة في ذلك المسعى، بدليل أنها دعمت إسكاتهم في عهدي بايدن الديمقراطي وترامب الجمهوري على السواء.
والمصلحة الأكيدة ليست مجرد دعم إسرائيل، وإنما الحفاظ على الإمبراطورية الأمريكية ذاتها التي تتآكل منذ فترة وفي طريقها للانهيار. ولكنها، كالإمبراطوريات التي سبقتها، تقاوم ذلك الانهيار بكل شراسة. وخسارة معركة الرأي العام الدولي كارثة للإمبراطورية، لأن الدعاية والإعلام يظلان دائمًا من أهم الأدوات التي تستخدمها الإمبراطوريات لتخلق منظومة من الأفكار والمؤسسات والهياكل التي تحفظ وجودها.
ومن هنا، فإن خسارة إسرائيل، ومعها أمريكا، الرأي العام أثناء إبادة غزة كانت تمثل خطوة مهمة في مسار فضح تلك المنظومة وهدمها.
لذلك هناك ضرورة قصوى لوأد ذلك المسار أملًا في إعادة تلك المنظومة لسابق عهدها. بعبارة أخرى، فإن المسألة ليست مجرد دعم إسرائيل، وإنما إنقاذ الإمبراطورية. فإسرائيل تظل، في التحليل الأخير، أحد أذرع الإمبراطورية. وإنقاذ الإمبراطورية باتت له الأولوية حتى لو كان على حساب حريات المواطن الأمريكي نفسه.
باختصار، أسفر فضح المنظومة الفكرية للإمبراطورية ووحشية أذرعها طوال حرب الإبادة عن المزيد من الشراسة للحفاظ على ما تبقى من هيبة الإمبراطورية. لكن توجيه تلك الشراسة لحريات الأمريكيين المعارضين للإبادة في فلسطين سيكون، على الأرجح، مجرد مقدمة لقمع باقي الأمريكيين الذين يجرؤون على مكافحة الإمبراطورية أو حتى على مناهضة الحكومة الأمريكية بخصوص السياسة الداخلية، لا فقط الخارجية.
ويدرك النشطاء الأمريكيون أن إسكات المدافعين عن فلسطين مجرد الخطوة الأولى نحو إسكات كل من يدافع عن أية فئة معارضة أو تتعرض للقهر داخل أمريكا ذاتها، بمن في ذلك، بالمناسبة، اليهود الأمريكيون الذين تم اعتقال مائة منهم احتجوا على اعتقال محمود خليل في اعتصام داخل برج ترامب بنيويورك!
فمكارثية الخمسينيات التي تعلقت بالسياسة الخارجية واستهدفت «عملاء للخارج» الذين يرتكبون أفعالًا «غير أمريكية»، سرعان ما ارتدت عباءة أخرى واستهدفت السود في حركة الحقوق المدنية باعتبارهم «محرضين وخونة»، بل واستهدفت مارتن لوثر كينج نفسه بالملاحقة والتجسس والتشهير.
وترامب لم ينكر أيًّا مما تقدم. فهو قال صراحة إن «تلك مجرد البداية»!، بل إنه استخدم مفردات الماضي البائس ذاتها. فهو حين تعهد بملاحقة طلاب الجامعات الذين اشتركوا في أنشطة «داعمة للإرهاب ومعادية للسامية»، وصف تلك الأنشطة بأنها «غير أمريكية«!.
ولأن القضية هي حماية الإمبراطورية، لم تختلف ردود أفعال الديمقراطيين كثيرًا عن ترامب. فحكيم جيفريز، زعيم الأقلية الديمقراطية بمجلس النواب، أصدر بيانًا حول اعتقال محمود خليل، لم يعترض فيه على توصيف الإدارة لنشاط محمود خليل، ولا على اعتقاله، وإنما طالب وزارة الأمن الداخلي بتقديم الأدلة على تورطه في «نشاط إرهابي»، وإلا صارت إجراءاتها «غير متسقة مع الدستور»!.
{ باحثة مختصة في الشؤون الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك