زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
استخفوا بي في مطار المنامة
قبل عام ليس بالبعيد توقفت ذات عام «عابرا/ ترانزيت» في مطار المنامة، في انتظار أن تقلني طائرة إلى وُجْهة أوروبية، وكنت وقتها أعاني من انفجار دمل كان في أسفل بطني، وأطلق حمما بركانية، ولجأت الى طبيب جراح، شرحت له أنني مسافر جوا لمسافة طويلة بعد ساعات، فقام بتنظيف موقع الدمل، ووضع عليه ضمادات، غير لاصقة، ونصحني بالسفر على الدرجة الأولى، كي يتسنى لي التمدد قليلا على مقعد الطائرة، لتفادي الضغط على الجرح المفتوح. وقد كان.
في مطار المنامة دخلت صالة ركاب الدرجة الأولى، في انتظار إقلاع الرحلة الثانية، وتمددت على كنبة وثيرة، بعد ارخاء حزام البنطلون لتخفيف الضغط على موقع الدمل، ثم انتبهت الى نظرات الاستياء والاشمئزاز في عيون بعض من كانوا في الصالة، ولسان حالهم يقول «وش اللي جاب هذا المُبَهْدل في صالة الدرجة الأولى؟»، وكنت مدركا أن شكلي العام ببنطلوني المرتخي حول خاصرتي، وتمددي على الكنبة، يشيان بأنني مُبَهْدل ودخيل على تلك الصالة، بينما كان بقية الضيوف فيها في كامل أناقتهم.
وبعد نحو نصف ساعة من رقادي على الكنبة، سمعت من يقول: هلا أبو الجعافر، ورفعت رأسي فإذا به مطرب العرب الكبير محمد عبده. فنهضت وعانقته ولسان حالي يقول: ينصر دينك، جئت في الوقت المناسب لتحشو عيون هؤلاء فلفلا حرّاقا. واندفع بعض من كانوا ينظرون الى شذرا الى محمد عبده مُحَيين إياه، ومصافحين إياي بحماس شديد، وهكذا تحولت من نكرة غير مرغوب فيه، الى «معرفة» بالإضافة الى محمد عبده.
هناك مثل شعبي واسع التداول، رغم أنه في منتهى الركاكة: «اللي ما يعرفك يجهلك». هو لا يعرفني فما الغريب في أنه يجهلني؟ أعني أن عدم المعرفة جهل. ومع هذا استدعيت ذلك المثل، وأنا في تلك الصالة، حيث اعتبرني بعض نزلائها «دُمّلاً» في جسمها، وعذرتهم لأنهم لا يعرفون أنني «ولد عِز». لم يكونوا يعرفون أنني ارستقراطي بالميلاد، فقد كنت - مثلا - التلميذ الوحيد الذي يذهب الى المدرسة الابتدائية على ظهر حمار، وكان خالي قد أهداني ذلك الحمار وانا في الصف الثالث الابتدائي، فجعلني ذلك محط حسد أقراني، ومحط إعجاب تلميذات مدرسة البنات الابتدائية، وصحيح انه كان حمارا بمعنى الكلمة، تطلب منه ان يتجه شرقا فيتجه جنوبا، ولكن المسامح كريم، ويكفي أنه رفع سهمي الاجتماعي في بلدة كانت فيها بعض الحمير، تحظى بنفس المكانة التي تحظى بها سيارات بورش وفيراري في أيامنا هذه.
كان جدي لأبي مغرما بالحمير، وكان كلما رأى حمارا «جميلا» قايضه بجزء من أراض كان يملكها، وعند وفاته، لم يبق من تلك الأراضي سوى رقعة مالحة، لا ينبت فيها حتى الصبار على ما فيه من جَلَد، ولكنه ترك للورثة 12 حمارا، فما كان من عمي «الطيب» – وهذا هو اسمه كما هو صفته – رحمه الله، وكان كبير إخوته، إلا أن وزعها على بعض أهل البلدة «صدقة» على روح والده، وهناك من قال إنه فعل ذلك غاضبا على حمير تسببت في ضياع أراضٍ خصبة.
في مرحلة الشباب توالت انجازاتي، فشربت الكولا وتعاطيت الآيس كريم عمدا وأنا دون الخامسة عشر، ثم وأنا طالب في الجامعة امتلكت دراجة، وكان ذلك لأنني صرت ثريا، بعد أن عملت في الإجازة المدرسية كاتبا في مختبر طبي مسؤولا عن تسلم العينات (وما أدراك ما تلك العينات)، وتسليم نتائج الفحص للمرضى، ثم جاءت القفزة الحضارية الكبرى عندما اشتريت سيارة بـ40 جنيها (كانت تساوي نحو 120 دولارا في ذلك الزمان). وكانت مجهولة الأبوين، لا أحد يعرف موديلها وماركتها، وكانت تسير بالدفع الرباعي، فلم يكن محركها يدور ما لم يدفعها أربعة أشخاص، وكانت تعاني من التهاب القولون، وتصدر عنها غازات، أحسب أنها نسفت حصة السودان من طبقة الأوزون. وعندما لم أجد من يشتريها، ولم أجد من يشتريها، فاستدرجتها الى أسفل جسر على النيل في موسم انحسار الماء، ثم جاء فيضان عَرم، وجرفها فذهبت غير مأسوف على شيخوختها.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك