العدد : ١٧١٥٥ - الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٥٥ - الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

استخفوا بي في مطار المنامة

قبل‭ ‬عام‭ ‬ليس‭ ‬بالبعيد‭ ‬توقفت‭ ‬ذات‭ ‬عام‭ ‬‮«‬عابرا‭/ ‬ترانزيت‮»‬‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬المنامة،‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬أن‭ ‬تقلني‭ ‬طائرة‭ ‬إلى‭ ‬وُجْهة‭ ‬أوروبية،‭ ‬وكنت‭ ‬وقتها‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬انفجار‭ ‬دمل‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬أسفل‭ ‬بطني،‭ ‬وأطلق‭ ‬حمما‭ ‬بركانية،‭ ‬ولجأت‭ ‬الى‭ ‬طبيب‭ ‬جراح،‭ ‬شرحت‭ ‬له‭ ‬أنني‭ ‬مسافر‭ ‬جوا‭ ‬لمسافة‭ ‬طويلة‭ ‬بعد‭ ‬ساعات،‭ ‬فقام‭ ‬بتنظيف‭ ‬موقع‭ ‬الدمل،‭ ‬ووضع‭ ‬عليه‭ ‬ضمادات،‭ ‬غير‭ ‬لاصقة،‭ ‬ونصحني‭ ‬بالسفر‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬كي‭ ‬يتسنى‭ ‬لي‭ ‬التمدد‭ ‬قليلا‭ ‬على‭ ‬مقعد‭ ‬الطائرة،‭ ‬لتفادي‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬الجرح‭ ‬المفتوح‭. ‬وقد‭ ‬كان‭.‬

في‭ ‬مطار‭ ‬المنامة‭ ‬دخلت‭ ‬صالة‭ ‬ركاب‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬إقلاع‭ ‬الرحلة‭ ‬الثانية،‭ ‬وتمددت‭ ‬على‭ ‬كنبة‭ ‬وثيرة،‭ ‬بعد‭ ‬ارخاء‭ ‬حزام‭ ‬البنطلون‭ ‬لتخفيف‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬موقع‭ ‬الدمل،‭ ‬ثم‭ ‬انتبهت‭ ‬الى‭ ‬نظرات‭ ‬الاستياء‭ ‬والاشمئزاز‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬الصالة،‭ ‬ولسان‭ ‬حالهم‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬وش‭ ‬اللي‭ ‬جاب‭ ‬هذا‭ ‬المُبَهْدل‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى؟‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬مدركا‭ ‬أن‭ ‬شكلي‭ ‬العام‭ ‬ببنطلوني‭ ‬المرتخي‭ ‬حول‭ ‬خاصرتي،‭ ‬وتمددي‭ ‬على‭ ‬الكنبة،‭ ‬يشيان‭ ‬بأنني‭ ‬مُبَهْدل‭ ‬ودخيل‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الصالة،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬بقية‭ ‬الضيوف‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬أناقتهم‭. ‬

وبعد‭ ‬نحو‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬رقادي‭ ‬على‭ ‬الكنبة،‭ ‬سمعت‭ ‬من‭ ‬يقول‭: ‬هلا‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر،‭ ‬ورفعت‭ ‬رأسي‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬مطرب‭ ‬العرب‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭. ‬فنهضت‭ ‬وعانقته‭ ‬ولسان‭ ‬حالي‭ ‬يقول‭: ‬ينصر‭ ‬دينك،‭ ‬جئت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب‭ ‬لتحشو‭ ‬عيون‭ ‬هؤلاء‭ ‬فلفلا‭ ‬حرّاقا‭. ‬واندفع‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬ينظرون‭ ‬الى‭ ‬شذرا‭ ‬الى‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬مُحَيين‭ ‬إياه،‭ ‬ومصافحين‭ ‬إياي‭ ‬بحماس‭ ‬شديد،‭ ‬وهكذا‭ ‬تحولت‭ ‬من‭ ‬نكرة‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه،‭ ‬الى‭ ‬‮«‬معرفة‮»‬‭ ‬بالإضافة‭ ‬الى‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭.‬

هناك‭ ‬مثل‭ ‬شعبي‭ ‬واسع‭ ‬التداول،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الركاكة‭: ‬‮«‬اللي‭ ‬ما‭ ‬يعرفك‭ ‬يجهلك‮»‬‭. ‬هو‭ ‬لا‭ ‬يعرفني‭ ‬فما‭ ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يجهلني؟‭ ‬أعني‭ ‬أن‭ ‬عدم‭ ‬المعرفة‭ ‬جهل‭. ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬استدعيت‭ ‬ذلك‭ ‬المثل،‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الصالة،‭ ‬حيث‭ ‬اعتبرني‭ ‬بعض‭ ‬نزلائها‭ ‬‮«‬دُمّلاً‮»‬‭ ‬في‭ ‬جسمها،‭ ‬وعذرتهم‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬أنني‭ ‬‮«‬ولد‭ ‬عِز‮»‬‭. ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬يعرفون‭ ‬أنني‭ ‬ارستقراطي‭ ‬بالميلاد،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ - ‬مثلا‭ - ‬التلميذ‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يذهب‭ ‬الى‭ ‬المدرسة‭ ‬الابتدائية‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬حمار،‭ ‬وكان‭ ‬خالي‭ ‬قد‭ ‬أهداني‭ ‬ذلك‭ ‬الحمار‭ ‬وانا‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الثالث‭ ‬الابتدائي،‭ ‬فجعلني‭ ‬ذلك‭ ‬محط‭ ‬حسد‭ ‬أقراني،‭ ‬ومحط‭ ‬إعجاب‭ ‬تلميذات‭ ‬مدرسة‭ ‬البنات‭ ‬الابتدائية،‭ ‬وصحيح‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬حمارا‭ ‬بمعنى‭ ‬الكلمة،‭ ‬تطلب‭ ‬منه‭ ‬ان‭ ‬يتجه‭ ‬شرقا‭ ‬فيتجه‭ ‬جنوبا،‭ ‬ولكن‭ ‬المسامح‭ ‬كريم،‭ ‬ويكفي‭ ‬أنه‭ ‬رفع‭ ‬سهمي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬كانت‭ ‬فيها‭ ‬بعض‭ ‬الحمير،‭ ‬تحظى‭ ‬بنفس‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬تحظى‭ ‬بها‭ ‬سيارات‭ ‬بورش‭ ‬وفيراري‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه‭.‬

كان‭ ‬جدي‭ ‬لأبي‭ ‬مغرما‭ ‬بالحمير،‭ ‬وكان‭ ‬كلما‭ ‬رأى‭ ‬حمارا‭ ‬‮«‬جميلا‮»‬‭ ‬قايضه‭ ‬بجزء‭ ‬من‭ ‬أراض‭ ‬كان‭ ‬يملكها،‭ ‬وعند‭ ‬وفاته،‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأراضي‭ ‬سوى‭ ‬رقعة‭ ‬مالحة،‭ ‬لا‭ ‬ينبت‭ ‬فيها‭ ‬حتى‭ ‬الصبار‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬جَلَد،‭ ‬ولكنه‭ ‬ترك‭ ‬للورثة‭ ‬12‭ ‬حمارا،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬عمي‭ ‬‮«‬الطيب‮»‬‭ ‬–‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬اسمه‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬صفته‭ ‬–‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬وكان‭ ‬كبير‭ ‬إخوته،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬وزعها‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬أهل‭ ‬البلدة‭ ‬‮«‬صدقة‮»‬‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬والده،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬غاضبا‭ ‬على‭ ‬حمير‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬ضياع‭ ‬أراضٍ‭ ‬خصبة‭.‬

في‭ ‬مرحلة‭ ‬الشباب‭ ‬توالت‭ ‬انجازاتي،‭ ‬فشربت‭ ‬الكولا‭ ‬وتعاطيت‭ ‬الآيس‭ ‬كريم‭ ‬عمدا‭ ‬وأنا‭ ‬دون‭ ‬الخامسة‭ ‬عشر،‭ ‬ثم‭ ‬وأنا‭ ‬طالب‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬امتلكت‭ ‬دراجة،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬لأنني‭ ‬صرت‭ ‬ثريا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عملت‭ ‬في‭ ‬الإجازة‭ ‬المدرسية‭ ‬كاتبا‭ ‬في‭ ‬مختبر‭ ‬طبي‭ ‬مسؤولا‭ ‬عن‭ ‬تسلم‭ ‬العينات‭ (‬وما‭ ‬أدراك‭ ‬ما‭ ‬تلك‭ ‬العينات‭)‬،‭ ‬وتسليم‭ ‬نتائج‭ ‬الفحص‭ ‬للمرضى،‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬القفزة‭ ‬الحضارية‭ ‬الكبرى‭ ‬عندما‭ ‬اشتريت‭ ‬سيارة‭ ‬بـ40‭ ‬جنيها‭ (‬كانت‭ ‬تساوي‭ ‬نحو‭ ‬120‭ ‬دولارا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭). ‬وكانت‭ ‬مجهولة‭ ‬الأبوين،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬موديلها‭ ‬وماركتها،‭ ‬وكانت‭ ‬تسير‭ ‬بالدفع‭ ‬الرباعي،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬محركها‭ ‬يدور‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يدفعها‭ ‬أربعة‭ ‬أشخاص،‭ ‬وكانت‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬التهاب‭ ‬القولون،‭ ‬وتصدر‭ ‬عنها‭ ‬غازات،‭ ‬أحسب‭ ‬أنها‭ ‬نسفت‭ ‬حصة‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬الأوزون‭. ‬وعندما‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬من‭ ‬يشتريها،‭ ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬من‭ ‬يشتريها،‭ ‬فاستدرجتها‭ ‬الى‭ ‬أسفل‭ ‬جسر‭ ‬على‭ ‬النيل‭ ‬في‭ ‬موسم‭ ‬انحسار‭ ‬الماء،‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬فيضان‭ ‬عَرم،‭ ‬وجرفها‭ ‬فذهبت‭ ‬غير‭ ‬مأسوف‭ ‬على‭ ‬شيخوختها‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا