العدد : ١٧١٥٥ - الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٥٥ - الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

سر حليب الحمير

في‭ ‬مقالي‭ ‬ليوم‭ ‬أمس‭ ‬حدثتكم‭ ‬عن‭ ‬خ‭ ‬م‭ ‬الذي‭ ‬كمن‭ ‬في‭ ‬جحر‭ ‬ثعلب‭ ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين،‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬ونجح‭ ‬في‭ ‬اعتقال‭ ‬الثعلب‭ ‬ثم‭ ‬ذبحه،‭ ‬وباع‭ ‬لحمه‭ ‬لأهل‭ ‬الحي،‭ ‬ولم‭ ‬تكتشف‭ ‬أمره‭ ‬إلا‭ ‬امرأة‭ ‬فاتها‭ ‬شراء‭ ‬اللحم‭ ‬وطلبت‭ ‬منه‭ ‬سلخ‭ ‬راس‭ ‬‮«‬البهيمة‮»‬،‭ ‬فطلب‭ ‬منها‭ ‬ان‭ ‬تعود‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬قصيرة‭ ‬حتى‭ ‬يفرغ‭ ‬من‭ ‬السلخ،‭ ‬ولكنها‭ ‬عادت‭ ‬بأسرع‭ ‬مما‭ ‬توقع،‭ ‬وفوجئت‭ ‬بأن‭ ‬الرأس‭ ‬يخص‭ ‬ثعلبا‭!! ‬وذاع‭ ‬الخبر‭ ‬وتفشى‭ ‬في‭ ‬القرى‭ ‬والحضَر،‭ ‬ولكن‭ ‬شيخا‭ ‬أنقذ‭ ‬صاحبنا‭ ‬من‭ ‬المساءلة‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬لحم‭ ‬الثعلب‭ ‬ليس‭ ‬‮«‬حراما‮»‬‭.‬

‭ ‬وبعد‭ ‬تلك‭ ‬الحادثة‭ ‬بسنوات‭ ‬توفي‭ ‬والد‭ ‬خ‭ ‬م،‭ ‬وكان‭ ‬رجلا‭ ‬صالحا‭ ‬متعبدا،‭ ‬واجتمع‭ ‬خلق‭ ‬كثير‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬الحي‭ ‬حيث‭ ‬أقيمت‭ ‬مراسم‭ ‬العزاء،‭ ‬وكالعادة‭ ‬بات‭ ‬العشرات‭ ‬ليلتهم‭ - ‬خاصة‭ ‬الوافدين‭ ‬من‭ ‬أماكن‭ ‬بعيدة،‭ ‬في‭ ‬المسجد‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬المتوفى،‭ ‬وفي‭ ‬الصباح‭ ‬أيقظت‭ ‬النسوة‭ ‬خ‭. ‬م‭. ‬وطلبن‭ ‬منه‭ ‬النزول‭ ‬الى‭ ‬الحقول‭ ‬لجلب‭ ‬اللبن‭ ‬لإعداد‭ ‬الشاي‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬كل‭ ‬انسان‭ ‬حسب‭ ‬العرف‭ ‬السائد‭ ‬ان‭ ‬يدخل‭ ‬حظيرة‭ ‬أبقار‭ ‬من‭ ‬يشاء‭ ‬ليحلب‭ ‬من‭ ‬اللبن‭ ‬ما‭ ‬يشاء،‭ ‬إذا‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بمراسيم‭ ‬عزاء‭. ‬ونهض‭ ‬صاحبنا‭ ‬متثاقلا‭ ‬في‭ ‬باكورة‭ ‬صباح‭ ‬شديد‭ ‬البرودة‭ ‬ليأتي‭ ‬باللبن‭ ‬بكميات‭ ‬تجارية‭ ‬لجيش‭ ‬جرار‭ ‬من‭ ‬المعزين،‭ ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬وجيزة‭ ‬عاد‭ ‬حاملا‭ ‬ليترات‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬اللبن‭ ‬الطازج،‭ ‬واستيقظ‭ ‬الجميع‭ ‬ودارت‭ ‬أكواب‭ ‬الشاي‭ ‬الساخن‭ ‬مثنى‭ ‬وثلاثا‭ ‬ورباعا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الشاي‭ ‬دسما‭ ‬ولذيذا،‭ ‬ويقول‭ ‬الرواة‭ ‬ان‭ ‬أيا‭ ‬ممن‭ ‬شربوا‭ ‬الشاي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الصباح‭ ‬لم‭ ‬يصب‭ ‬هو‭ ‬وذريته‭ ‬عبر‭ ‬السنين‭ ‬بالسعال‭ ‬الديكي،‭ ‬لأن‭ ‬لبن‭ ‬الحمير‭ ‬خير‭ ‬دواء‭ ‬لذلك‭ ‬المرض‭ (‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف‭ ‬في‭ ‬دوائر‭ ‬الطب‭ ‬البديل‭ ‬‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬‮«‬بدين‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬أنحاء‭ ‬السودان‭ ‬الشمالي‭) ‬وذاعت‭ ‬الحكاية،‭ ‬وعرف‭ ‬الجميع‭ ‬ان‭ ‬خ‭. ‬م‭. ‬حلب‭ ‬حمير‭ ‬المُعزين‭ ‬وسقاهم‭ ‬لبنها،‭ ‬ولكن‭ ‬ضحايا‭ ‬خ‭. ‬م‭. ‬اكتفوا‭ ‬بقولهم‭: ‬الله‭ ‬يجازيه‭ ‬خيرا‭.. ‬ولد‭ ‬شقي‭.. ‬لكن‭ ‬ابن‭ ‬حلال‭! ‬نعم‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الفتى‭ ‬البارع‭ ‬في‭ ‬المقالب‭ ‬شهما‭ ‬وذا‭ ‬مروءة،‭ ‬وكان‭ ‬مؤذن‭ ‬الحي،‭ ‬وكنت‭ ‬تجده‭ ‬في‭ ‬الأفراح‭ ‬والأحزان‭ ‬يخدم‭ ‬الجميع‭ ‬بهمة‭ ‬ونشاط،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يركبه‭ ‬عفريت‭.‬

كانت‭ ‬طقوسنا‭ ‬في‭ ‬الأفراح‭ ‬والأتراح‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬النوبية‭ ‬مزيجا‭ ‬من‭ ‬الوثنية‭ ‬والمسيحية‭ ‬والإسلام‭: ‬رسم‭ ‬الصليب‭ ‬على‭ ‬جبهة‭ ‬الوليد،‭ ‬وعلى‭ ‬صومعة‭ ‬تخزين‭ ‬الغلال‭ (‬وتسمى‭ ‬عندهم‭ ‬قُسِّي‭/ ‬قسيبة‭)‬،‭ ‬والاستعاذة‭ ‬من‭ ‬الشر‭ ‬بعبارة‭ ‬‮»‬ماريا‭ ‬مي‮«‬،‭ ‬والعبارة‭ ‬تأتي‭ ‬بهذه‭ ‬الصيغة‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬الأوربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬باللاتينية‭ ‬أو‭ ‬اليونانية‭ ‬القديمة،‭ ‬وتجد‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬أسماء‭ ‬أيام‭ ‬الأسبوع‭: ‬سانتي‭ ‬ليوم‭ ‬السبت‭ (‬القديس‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬الأوروبية‭ ‬هو‭ ‬سانت‭ ‬أو‭ ‬سينت‭ ‬أو‭ ‬سان‭) ‬وكراقي‭ ‬ليوم‭ ‬الأحد‭ (‬كرياكي‭ ‬باليونانية‭)‬،‭ ‬ومسوقو‭ ‬ليوم‭ ‬الجمعة،‭ ‬وتتألف‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬شطرين‭ ‬هما‭ ‬مسي‭ ‬وتعني‭ ‬الصوم‭ ‬و»أوقو‮«‬‭ ‬وتعني‭ ‬‮»‬يوم‮«‬،‭ ‬ويوم‭ ‬الجمعة‭ ‬هو‭ ‬يوم‭ ‬الصوم‭ ‬في‭ ‬الكنيسة‭ ‬الشرقية،‭ ‬والاحتفال‭ ‬بعاشوراء‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬قرب‭ ‬شاطئ‭ ‬النيل،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬العائلات‭ ‬تجلس‭ ‬في‭ ‬حلقات‭ ‬حول‭ ‬صحون‭ ‬الطعام‭ ‬الشهي،‭ ‬ولكن‭ ‬اول‭ ‬لقمة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬صحن‭ ‬كانت‭ ‬تُرمى‭ ‬في‭ ‬النيل،‭ ‬النهر‭ ‬الإله،‭ ‬مصدر‭ ‬الخير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬نيل‭ ‬‮«‬مرضاته‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬يفيض‭ ‬بالماء‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬غضب‭ ‬او‭ ‬انفعال‭ ‬يهدد‭ ‬الزرع‭ ‬والضرع،‭ ‬وبموازاة‭ ‬ذلك‭ ‬يجري‭ ‬الصبية‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ ‬وهم‭ ‬يصيحون‭ ‬‮«‬عاشورا‭ ‬فانن‭ ‬تود‮»‬،‭ ‬وفانن‭ ‬تود،‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬فاطمة،‭ ‬والمقصود‭ ‬به‭ ‬الحسين‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬وهكذا‭ ‬اجتمع‭ ‬طقس‭ ‬من‭ ‬الديانة‭ ‬النوبية‭ ‬مع‭ ‬استدعاء‭ ‬واقعة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وبعد‭ ‬دفن‭ ‬الميت،‭ ‬كانوا‭ ‬ينصبون‭ ‬على‭ ‬القبر‭ ‬مظلة‭ ‬من‭ ‬جريد‭ ‬النخل،‭ ‬وفي‭ ‬الأعياد‭ ‬يضعون‭ ‬التمر‭ ‬والكعك‭ ‬والحلوى‭ ‬قرب‭ ‬رأس‭ ‬الميت‭ (‬القبر‭). ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الناس‭ ‬بالطبع‭ ‬يدركون‭ ‬انهم‭ ‬يأتون‭ ‬شيئا‭ ‬يخالف‭ ‬صحيح‭ ‬الإسلام،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬زمن‭ ‬يصلي‭ ‬فيه‭ ‬البعض‭ ‬وهم‭ ‬يقولون‭ ‬عوضا‭ ‬عن‭ ‬قراءة‭ ‬الفاتحة‭ ‬أو‭ ‬سورة‭ ‬أو‭ ‬الاثنين‭ ‬معا‭: ‬وو‭ ‬نور‭ ‬أي‭ ‬إقد‭ ‬إنّا‭ ‬مل‭ ‬أي‭ ‬كج‭ ‬إنا‭ ‬مل‭!! ‬يا‭ ‬إلهي‭ ‬أنا‭ ‬نعجتك،‭ ‬أنا‭ ‬حمارك‭!! ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬إسلام‭ ‬الأطراف‭ ‬القائم‭ ‬أساسا‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬الشهادتين‭ ‬واستيفاء‭ ‬الأركان‭ ‬الأربعة‭ ‬الأخرى،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تمعن‭ ‬او‭ ‬تبصر،‭ ‬ورجعت‭ ‬بالذاكرة‭ ‬القهقرى‭ ‬مرددا‭ ‬الأغنيات‭ ‬النوبية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬رائجة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬صباي،‭ ‬فوجدت‭ ‬جميعها‭ ‬تبدأ‭ ‬بالصلاة‭ ‬على‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا