زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
سر حليب الحمير
في مقالي ليوم أمس حدثتكم عن خ م الذي كمن في جحر ثعلب في بلدتنا جزيرة بدين، في شمال السودان، ونجح في اعتقال الثعلب ثم ذبحه، وباع لحمه لأهل الحي، ولم تكتشف أمره إلا امرأة فاتها شراء اللحم وطلبت منه سلخ راس «البهيمة»، فطلب منها ان تعود إليه بعد فترة زمنية قصيرة حتى يفرغ من السلخ، ولكنها عادت بأسرع مما توقع، وفوجئت بأن الرأس يخص ثعلبا!! وذاع الخبر وتفشى في القرى والحضَر، ولكن شيخا أنقذ صاحبنا من المساءلة حين قال إن لحم الثعلب ليس «حراما».
وبعد تلك الحادثة بسنوات توفي والد خ م، وكان رجلا صالحا متعبدا، واجتمع خلق كثير في مسجد الحي حيث أقيمت مراسم العزاء، وكالعادة بات العشرات ليلتهم - خاصة الوافدين من أماكن بعيدة، في المسجد القريب من بيت المتوفى، وفي الصباح أيقظت النسوة خ. م. وطلبن منه النزول الى الحقول لجلب اللبن لإعداد الشاي. كان من حق كل انسان حسب العرف السائد ان يدخل حظيرة أبقار من يشاء ليحلب من اللبن ما يشاء، إذا تعلق الأمر بمراسيم عزاء. ونهض صاحبنا متثاقلا في باكورة صباح شديد البرودة ليأتي باللبن بكميات تجارية لجيش جرار من المعزين، وبعد فترة وجيزة عاد حاملا ليترات كثيرة من اللبن الطازج، واستيقظ الجميع ودارت أكواب الشاي الساخن مثنى وثلاثا ورباعا، فقد كان الشاي دسما ولذيذا، ويقول الرواة ان أيا ممن شربوا الشاي في ذلك الصباح لم يصب هو وذريته عبر السنين بالسعال الديكي، لأن لبن الحمير خير دواء لذلك المرض (كما هو معروف في دوائر الطب البديل – وليس فقط في «بدين»، بل في عموم أنحاء السودان الشمالي) وذاعت الحكاية، وعرف الجميع ان خ. م. حلب حمير المُعزين وسقاهم لبنها، ولكن ضحايا خ. م. اكتفوا بقولهم: الله يجازيه خيرا.. ولد شقي.. لكن ابن حلال! نعم فقد كان ذلك الفتى البارع في المقالب شهما وذا مروءة، وكان مؤذن الحي، وكنت تجده في الأفراح والأحزان يخدم الجميع بهمة ونشاط، ما لم يركبه عفريت.
كانت طقوسنا في الأفراح والأتراح في المنطقة النوبية مزيجا من الوثنية والمسيحية والإسلام: رسم الصليب على جبهة الوليد، وعلى صومعة تخزين الغلال (وتسمى عندهم قُسِّي/ قسيبة)، والاستعاذة من الشر بعبارة »ماريا مي«، والعبارة تأتي بهذه الصيغة في الكثير من اللغات الأوربية المعاصرة ذات الصلة باللاتينية أو اليونانية القديمة، وتجد الشيء نفسه في أسماء أيام الأسبوع: سانتي ليوم السبت (القديس في الكثير من اللغات الأوروبية هو سانت أو سينت أو سان) وكراقي ليوم الأحد (كرياكي باليونانية)، ومسوقو ليوم الجمعة، وتتألف الكلمة من شطرين هما مسي وتعني الصوم و»أوقو« وتعني »يوم«، ويوم الجمعة هو يوم الصوم في الكنيسة الشرقية، والاحتفال بعاشوراء كان يتم قرب شاطئ النيل، حيث كانت العائلات تجلس في حلقات حول صحون الطعام الشهي، ولكن اول لقمة من كل صحن كانت تُرمى في النيل، النهر الإله، مصدر الخير الذي لا بد من نيل «مرضاته»، حتى يفيض بالماء من دون غضب او انفعال يهدد الزرع والضرع، وبموازاة ذلك يجري الصبية على الشاطئ وهم يصيحون «عاشورا فانن تود»، وفانن تود، هو ابن فاطمة، والمقصود به الحسين بن علي رضي الله عنه، وهكذا اجتمع طقس من الديانة النوبية مع استدعاء واقعة في تاريخ الدولة الإسلامية، وبعد دفن الميت، كانوا ينصبون على القبر مظلة من جريد النخل، وفي الأعياد يضعون التمر والكعك والحلوى قرب رأس الميت (القبر). لم يكن الناس بالطبع يدركون انهم يأتون شيئا يخالف صحيح الإسلام، فقد كان ذلك زمن يصلي فيه البعض وهم يقولون عوضا عن قراءة الفاتحة أو سورة أو الاثنين معا: وو نور أي إقد إنّا مل أي كج إنا مل!! يا إلهي أنا نعجتك، أنا حمارك!! كان ذلك إسلام الأطراف القائم أساسا على قول الشهادتين واستيفاء الأركان الأربعة الأخرى، من دون تمعن او تبصر، ورجعت بالذاكرة القهقرى مرددا الأغنيات النوبية التي كانت رائجة في مرحلة صباي، فوجدت جميعها تبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك