زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
موسوليني خطيبا وخ. م. قصابا
كما ذكرت في نحو ست مقالات على مدى الأيام الماضية، فأجمل ذكرياتي الرمضانية تعود إلى الحقبة التي عشت فيها في جزيرة بدين في شمال السودان النوبي. وأقوم باستدعاء الناس والأماكن، وتفاصيل صغيرة، تنعشني وتذكرني بأن ذاكرتي مازالت بخير.
كان عمي محمد عثمان فقير علي، الشهير بموسوليني، فارس العمل التعاوني في الجزء الذي يخصنا من بلدتنا بدين، وما من مشروع زراعي أو طاحونة او متجر تعاوني قام على مدى نصف قرن، إلا وكان هو من يجمع المساهمات ويسافر لشراء المعدات ويغشى المكاتب الحكومية للحصول على التراخيص والتصاريح الخاصة به، وكان أيضا خطيباً وإمام «جمعة»، وكان لديه كتاب نجا من طوفان نوح يضم نحو سبع خطب نشف بها ريق المصلين على مدى عشرات السنين، وكان الكتاب مهلهلا من كثرة الاستخدام، وذات جمعة كان يهدر بالخطبة الأولى في المسجد فتساقطت بضع وريقات فجمع شتاتها، ولأنها لم تكن مرقمة فقد عجز عن ترتيب الصفحات على النحو الصحيح فقال: يللا أقم الصلاة! متخطيا الخطبة الثانية، وكان رحمه الله صاحب دعابة وضحكة مجلجلة، بل كان يضحك ويُضحِك غيره وهو يلقي المواعظ الدينية، وذات مرة خاطب حلقة من الرجال بقوله انه لاحظ انهم يتبادلون التحايا مع النساء بالأحضان والمصافحة باليد، وأن ذلك حرام! فقال له أحدهم: لقد ظللنا نفعل ذلك طوال عمرنا فلماذا لم تخبرنا بحرمته من قبل، وأنت شيخنا وكبيرنا؟ فقال موسليني: والله لم أسمع بهذا الأمر إلا مؤخرا.
وكان رحمه الله شخصية فذة، وكان المرشح الذي يحظى بمساندته في الانتخابات يضمن لنفسه عشرات الآلاف من الأصوات، فقد كان ذا خبرة في التعامل مع أهل السلطة، ولم يكن يخاف من «الحكومة» كما هو حال القرويين، ومثل مرة أمام القاضي في مدينة دنقلا، وأثناء المداولات قام محامي الطرف الآخر بمخاطبة القاضي أكثر من مرة بالإنجليزية، فلما جاء الدور على موسوليني بدأ يتكلم باللغة النوبية، فصاح فيه القاضي بما معناه: ما هذا يا حاج؟ تكلم بلغة مفهومة!! فرد موسوليني: لما المحامي يتكلم بلغة مفهومة أنا أيضا أتكلم بلغة مفهومة!! فضحك القاضي ومنع المحامي من استخدام المفردات الإنجليزية.
كان ليومي الاثنين والخميس مذاق خاص في جزيرة بدين لأنهما يوما «السوق»، حيث كان التجار يأتون الى سوق البلدة من كافة أنحاء المنطقة، وكان المحظوظون منا من يملكون السيولة لشراء حلاوة «لكّوم»، ويسميها غيرنا «راحة الحلقوم»، ولكن سر سعادتنا بيومي السوق كانا يكمنان في أننا كنا نتعاطى اللحم في ذينك اليومين، وكنا أحيانا نشهد طفرة طعامية في غير ذينك اليومين، عندما يقوم أحدهم بذبح بهيمة «كيري»، أي بدون ترخيص داخل الحي، ويوزع لحمها على كل البيوت بنظام الدفع المؤجل، وذات مرة وزع أخونا خ. م. لحما على كل البيوت واستمتع الكبار والصغار بطبخة طيبة المذاق يسميها أهل السودان «دمعة»، ربما لأن تقطيع وتحمير البصل لإعداد تلك الطبخة، التي يشكل اللحم والطماطم/ الصلصة أهم عنصرين فيها بعد البصل، يؤدي إلى جريان الدمع!! المهم أن امرأة فاتها توزيع اللحم طلبت من خ. م.. أن يسلخ لها رأس البهيمة، فطلب منها ان تذهب الى حيث تشاء لتعطيه وقتا لسلخ الرأس ثم تعود فتأخذه، ولأمر ما عادت المرأة بعد أن قررت أن تكون بجواره لتستعجله سلخ الرأس، ولما أنتبه إلى أنها عادت، انحرفت السكين وانغرست في يده اليسرى. حدث ذلك نتيجة صرخة صدرت من المرأة، فقد كان خيري يسلخ رأس ثعلب، اصطاده بأن كمن في جحره، وما أن دخله حتى انقض عليه. وإلى يومنا هذا لا يعرف أهل حينا الذين أكلوا لحم الثعلب في ذلك اليوم ما إذا كان الثعلب قد مات فطيسا ام مذبوحا «حلالا»! ومع هذا أفلت خ. م. من العقاب فقد كان محبوبا من الجميع، ولم يسلم من مقالبه كبير أو صغير في الحي.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك