العدد : ١٧١٥٥ - الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٥٥ - الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

موسوليني خطيبا وخ. م. قصابا

كما‭ ‬ذكرت‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬ست‭ ‬مقالات‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الأيام‭ ‬الماضية،‭ ‬فأجمل‭ ‬ذكرياتي‭ ‬الرمضانية‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الحقبة‭ ‬التي‭ ‬عشت‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬النوبي‭. ‬وأقوم‭ ‬باستدعاء‭ ‬الناس‭ ‬والأماكن،‭ ‬وتفاصيل‭ ‬صغيرة،‭ ‬تنعشني‭ ‬وتذكرني‭ ‬بأن‭ ‬ذاكرتي‭ ‬مازالت‭ ‬بخير‭.‬

كان‭ ‬عمي‭ ‬محمد‭ ‬عثمان‭ ‬فقير‭ ‬علي،‭ ‬الشهير‭ ‬بموسوليني،‭ ‬فارس‭ ‬العمل‭ ‬التعاوني‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الذي‭ ‬يخصنا‭ ‬من‭ ‬بلدتنا‭ ‬بدين،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ‬زراعي‭ ‬أو‭ ‬طاحونة‭ ‬او‭ ‬متجر‭ ‬تعاوني‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬إلا‭ ‬وكان‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يجمع‭ ‬المساهمات‭ ‬ويسافر‭ ‬لشراء‭ ‬المعدات‭ ‬ويغشى‭ ‬المكاتب‭ ‬الحكومية‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬التراخيص‭ ‬والتصاريح‭ ‬الخاصة‭ ‬به،‭ ‬وكان‭ ‬أيضا‭ ‬خطيباً‭ ‬وإمام‭ ‬‮«‬جمعة‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬لديه‭ ‬كتاب‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬طوفان‭ ‬نوح‭ ‬يضم‭ ‬نحو‭ ‬سبع‭ ‬خطب‭ ‬نشف‭ ‬بها‭ ‬ريق‭ ‬المصلين‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عشرات‭ ‬السنين،‭ ‬وكان‭ ‬الكتاب‭ ‬مهلهلا‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬الاستخدام،‭ ‬وذات‭ ‬جمعة‭ ‬كان‭ ‬يهدر‭ ‬بالخطبة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬المسجد‭ ‬فتساقطت‭ ‬بضع‭ ‬وريقات‭ ‬فجمع‭ ‬شتاتها،‭ ‬ولأنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مرقمة‭ ‬فقد‭ ‬عجز‭ ‬عن‭ ‬ترتيب‭ ‬الصفحات‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الصحيح‭ ‬فقال‭: ‬يللا‭ ‬أقم‭ ‬الصلاة‭! ‬متخطيا‭ ‬الخطبة‭ ‬الثانية،‭ ‬وكان‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬صاحب‭ ‬دعابة‭ ‬وضحكة‭ ‬مجلجلة،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يضحك‭ ‬ويُضحِك‭ ‬غيره‭ ‬وهو‭ ‬يلقي‭ ‬المواعظ‭ ‬الدينية،‭ ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬خاطب‭ ‬حلقة‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬بقوله‭ ‬انه‭ ‬لاحظ‭ ‬انهم‭ ‬يتبادلون‭ ‬التحايا‭ ‬مع‭ ‬النساء‭ ‬بالأحضان‭ ‬والمصافحة‭ ‬باليد،‭ ‬وأن‭ ‬ذلك‭ ‬حرام‭! ‬فقال‭ ‬له‭ ‬أحدهم‭: ‬لقد‭ ‬ظللنا‭ ‬نفعل‭ ‬ذلك‭ ‬طوال‭ ‬عمرنا‭ ‬فلماذا‭ ‬لم‭ ‬تخبرنا‭ ‬بحرمته‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وأنت‭ ‬شيخنا‭ ‬وكبيرنا؟‭ ‬فقال‭ ‬موسليني‭: ‬والله‭ ‬لم‭ ‬أسمع‭ ‬بهذا‭ ‬الأمر‭ ‬إلا‭ ‬مؤخرا‭.‬

وكان‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬شخصية‭ ‬فذة،‭ ‬وكان‭ ‬المرشح‭ ‬الذي‭ ‬يحظى‭ ‬بمساندته‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬يضمن‭ ‬لنفسه‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الأصوات،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬خبرة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬أهل‭ ‬السلطة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬‮«‬الحكومة‮»‬‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬القرويين،‭ ‬ومثل‭ ‬مرة‭ ‬أمام‭ ‬القاضي‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬دنقلا،‭ ‬وأثناء‭ ‬المداولات‭ ‬قام‭ ‬محامي‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬بمخاطبة‭ ‬القاضي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬بالإنجليزية،‭ ‬فلما‭ ‬جاء‭ ‬الدور‭ ‬على‭ ‬موسوليني‭ ‬بدأ‭ ‬يتكلم‭ ‬باللغة‭ ‬النوبية،‭ ‬فصاح‭ ‬فيه‭ ‬القاضي‭ ‬بما‭ ‬معناه‭: ‬ما‭ ‬هذا‭ ‬يا‭ ‬حاج؟‭ ‬تكلم‭ ‬بلغة‭ ‬مفهومة‭!! ‬فرد‭ ‬موسوليني‭: ‬لما‭ ‬المحامي‭ ‬يتكلم‭ ‬بلغة‭ ‬مفهومة‭ ‬أنا‭ ‬أيضا‭ ‬أتكلم‭ ‬بلغة‭ ‬مفهومة‭!! ‬فضحك‭ ‬القاضي‭ ‬ومنع‭ ‬المحامي‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬المفردات‭ ‬الإنجليزية‭.‬

كان‭ ‬ليومي‭ ‬الاثنين‭ ‬والخميس‭ ‬مذاق‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين‭ ‬لأنهما‭ ‬يوما‭ ‬‮«‬السوق‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬التجار‭ ‬يأتون‭ ‬الى‭ ‬سوق‭ ‬البلدة‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬أنحاء‭ ‬المنطقة،‭ ‬وكان‭ ‬المحظوظون‭ ‬منا‭ ‬من‭ ‬يملكون‭ ‬السيولة‭ ‬لشراء‭ ‬حلاوة‭ ‬‮«‬لكّوم‮»‬،‭ ‬ويسميها‭ ‬غيرنا‭ ‬‮«‬راحة‭ ‬الحلقوم‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬سر‭ ‬سعادتنا‭ ‬بيومي‭ ‬السوق‭ ‬كانا‭ ‬يكمنان‭ ‬في‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬نتعاطى‭ ‬اللحم‭ ‬في‭ ‬ذينك‭ ‬اليومين،‭ ‬وكنا‭ ‬أحيانا‭ ‬نشهد‭ ‬طفرة‭ ‬طعامية‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬ذينك‭ ‬اليومين،‭ ‬عندما‭ ‬يقوم‭ ‬أحدهم‭ ‬بذبح‭ ‬بهيمة‭ ‬‮«‬كيري‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬بدون‭ ‬ترخيص‭ ‬داخل‭ ‬الحي،‭ ‬ويوزع‭ ‬لحمها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬البيوت‭ ‬بنظام‭ ‬الدفع‭ ‬المؤجل،‭ ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬وزع‭ ‬أخونا‭ ‬خ‭. ‬م‭. ‬لحما‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬البيوت‭ ‬واستمتع‭ ‬الكبار‭ ‬والصغار‭ ‬بطبخة‭ ‬طيبة‭ ‬المذاق‭ ‬يسميها‭ ‬أهل‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬دمعة‮»‬،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬تقطيع‭ ‬وتحمير‭ ‬البصل‭ ‬لإعداد‭ ‬تلك‭ ‬الطبخة،‭ ‬التي‭ ‬يشكل‭ ‬اللحم‭ ‬والطماطم‭/ ‬الصلصة‭ ‬أهم‭ ‬عنصرين‭ ‬فيها‭ ‬بعد‭ ‬البصل،‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬جريان‭ ‬الدمع‭!! ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬امرأة‭ ‬فاتها‭ ‬توزيع‭ ‬اللحم‭ ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬خ‭. ‬م‭.. ‬أن‭ ‬يسلخ‭ ‬لها‭ ‬رأس‭ ‬البهيمة،‭ ‬فطلب‭ ‬منها‭ ‬ان‭ ‬تذهب‭ ‬الى‭ ‬حيث‭ ‬تشاء‭ ‬لتعطيه‭ ‬وقتا‭ ‬لسلخ‭ ‬الرأس‭ ‬ثم‭ ‬تعود‭ ‬فتأخذه،‭ ‬ولأمر‭ ‬ما‭ ‬عادت‭ ‬المرأة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بجواره‭ ‬لتستعجله‭ ‬سلخ‭ ‬الرأس،‭ ‬ولما‭ ‬أنتبه‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬عادت،‭ ‬انحرفت‭ ‬السكين‭ ‬وانغرست‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬اليسرى‭. ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬نتيجة‭ ‬صرخة‭ ‬صدرت‭ ‬من‭ ‬المرأة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬خيري‭ ‬يسلخ‭ ‬رأس‭ ‬ثعلب،‭ ‬اصطاده‭ ‬بأن‭ ‬كمن‭ ‬في‭ ‬جحره،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬دخله‭ ‬حتى‭ ‬انقض‭ ‬عليه‭. ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أهل‭ ‬حينا‭ ‬الذين‭ ‬أكلوا‭ ‬لحم‭ ‬الثعلب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الثعلب‭ ‬قد‭ ‬مات‭ ‬فطيسا‭ ‬ام‭ ‬مذبوحا‭ ‬‮«‬حلالا‮»‬‭! ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬أفلت‭ ‬خ‭. ‬م‭. ‬من‭ ‬العقاب‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬محبوبا‭ ‬من‭ ‬الجميع،‭ ‬ولم‭ ‬يسلم‭ ‬من‭ ‬مقالبه‭ ‬كبير‭ ‬أو‭ ‬صغير‭ ‬في‭ ‬الحي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا