العدد : ١٧١٥٥ - الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٥٥ - الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وفرحت لموت أبيها

تعرضت‭ ‬مرارا‭ ‬للانتقاد‭ ‬من‭ ‬قِبل‭ ‬عيالي‭ ‬لأنني‭ ‬رفضت‭ ‬الاستجابة‭ ‬لطلباتهم‭ ‬أو‭ ‬لأن‭ ‬رد‭ ‬فعلي‭ ‬على‭ ‬سلوك‭ ‬أو‭ ‬كلام‭ ‬صدر‭ ‬عنهم‭ ‬كان‭ ‬‮«‬مبالغا‭ ‬فيه‮»‬‭ ‬في‭ ‬تقديرهم،‭ ‬ولا‭ ‬أنكر‭ ‬أنني‭ ‬اعتقد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬واجب‭ ‬الوالدين‭ ‬التمتع‭ ‬بسلطات‭ ‬دكتاتورية‭ ‬في‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬التربية،‭ ‬وخاصة‭ ‬تلك‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالصواب‭ ‬والخطأ‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬والكلام،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬أحس‭ ‬بأنني‭ ‬أب‭ ‬‮«‬فاشل‮»‬،‭ ‬ولكنني‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أدرك‭ ‬أنني‭ ‬لست‭ ‬أبا‭ ‬مميزا،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬طفل‭: ‬يا‭ ‬ريت‭ (‬ليت‭) ‬لو‭ ‬أنت‭ ‬أبوي،‭ ‬أحزنتني‭ ‬تلك‭ ‬العبارة‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬ضيق‭ ‬الطفل‭ ‬بفظاظة‭ ‬أبيه،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬إعجاب‭ ‬بي،‭ ‬وكان‭ ‬أبوه‭ ‬فعلا‭ ‬قاسي‭ ‬القلب‭ ‬يجلد‭ ‬عياله‭ ‬باللسان‭ ‬واليد،‭ ‬ثم‭ ‬قرأت‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬إنجليزية‭ ‬ما‭ ‬قالته‭ ‬دافني‭ ‬واتس‭ ‬بمناسبة‭ ‬وفاة‭ ‬أبيها‭ ‬فرانسيس‭ ‬واتس‭: ‬وددت‭ ‬لو‭ ‬أرقص‭ ‬فوق‭ ‬قبره‭. ‬ولكنني‭ ‬رقصت‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬ودافني‭ ‬هذه‭ ‬ليست‭ ‬طفلة‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬الواحدة‭ ‬والستين‭ ‬عندما‭ ‬مات‭ ‬أبوها،‭ ‬ولا‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬إعاقة‭ ‬عقلية‭ ‬أو‭ ‬ذهنية،‭ ‬وعبرت‭ ‬عن‭ ‬سعادتها‭ ‬بموت‭ ‬أبيها‭ ‬لأنه‭ ‬استعبدها‭ ‬طوال‭ ‬43‭ ‬سنة،‭ ‬فمنذ‭ ‬أن‭ ‬بلغت‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭ ‬جعلها‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬مزرعته‭ ‬التي‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬تسعين‭ ‬إيكر‭ (‬الإيكر‭ ‬يساوي‭ ‬نحو‭ ‬4000‭ ‬متر‭ ‬مربع‭). ‬تصحو‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬صباحا،‭ ‬وتبدأ‭ ‬بتنظيف‭ ‬حظيرة‭ ‬الأبقار‭ ‬من‭ ‬الروث،‭ ‬ثم‭ ‬تقدم‭ ‬العلف‭ ‬للأبقار،‭ ‬وبعدها‭ ‬تحلب‭ ‬عشرات‭ ‬الأبقار‭. ‬وتنتهي‭ ‬من‭ ‬مهمة‭ ‬وتنتقل‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬حتى‭ ‬مغيب‭ ‬الشمس،‭ ‬لتعود‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬ليست‭ ‬فيها‭ ‬تدفئة،‭ ‬وحمام‭ ‬ليست‭ ‬فيه‭ ‬مياه‭ ‬ساخنة،‭ ‬ولم‭ ‬يحدث‭ ‬قط‭ ‬أن‭ ‬اشترى‭ ‬لها‭ ‬أبوها‭ ‬ملابس‭ ‬جديدة،‭ ‬فكلما‭ ‬تقطعت‭ ‬ملابسها‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬محلات‭ ‬الملابس‭ ‬المستعملة‭ ‬واشترى‭ ‬لها‭ ‬بنطلونا‭ ‬واحدا‭ ‬وقميصا‭ ‬واحدا‭ ‬ويا‭ ‬ويلها‭ ‬لو‭ ‬اهترأ‭ ‬القميص‭ ‬أو‭ ‬البنطلون‭. ‬وكان‭ ‬نصيبها‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬وجبتين‭ ‬يوميا‭. ‬ولأن‭ ‬مسؤولين‭ ‬حكوميين‭ ‬كانوا‭ ‬يأتون‭ ‬إلى‭ ‬المزرعة‭ ‬لسبب‭ ‬أو‭ ‬لآخر‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الأب‭ ‬يقدم‭ ‬ابنته‭ ‬إليهم‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬عامل‮»‬‭ ‬لديه،‭ ‬وكان‭ ‬يبرز‭ ‬لهم‭ ‬دفاتر‭ ‬توضح‭ ‬أنها‭ ‬تتقاضى‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬الأجر‭ ‬المنصوص‭ ‬عليه‭ ‬قانونا،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬يعطيها‭ ‬12‭ ‬بنسا‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ (‬الإسترليني‭ ‬يساوي‭ ‬100‭ ‬بنس‭). ‬الأم‭ ‬كاثلين‭ ‬التي‭ ‬ماتت‭ ‬قبل‭ ‬زوجها‭ ‬بأعوام‭ ‬قليلة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تبالي‭ ‬بالمعاملة‭ ‬السيئة‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬ابنتها،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬فرانسيس‭ ‬اختارها‭ ‬زوجة،‭ ‬لأنها‭ ‬قوية‭ ‬البنية‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بأعباء‭ ‬ثقيلة‭ ‬مثل‭ ‬قيادة‭ ‬الجرارات‭ ‬وتقليب‭ ‬التربة‭ ‬وبناء‭ ‬الحظائر‭. ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬قط‭ ‬أن‭ ‬اشترى‭ ‬الوالدان‭ ‬لدافني‭ ‬لعبة‭ ‬بلاستيكية‭ ‬أو‭ ‬آيسكريم،‭ ‬ولم‭ ‬تسمع‭ ‬بأشياء‭ ‬مثل‭ ‬البيرغر‭ ‬ودجاج‭ ‬كنتاكي‭ ‬والبيتزا‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬والدها‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭!! ‬وكانت‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تسلي‭ ‬نفسها‭ ‬برسم‭ ‬بعض‭ ‬الأشياء‭ ‬على‭ ‬المعدات‭ ‬الزراعية‭ ‬ولكن‭ ‬والدها‭ ‬كان‭ ‬يلزمها‭ ‬بشراء‭ ‬علب‭ ‬الطلاء‭ ‬على‭ ‬نفقتها‭ ‬الخاصة‭ (‬يعني‭ ‬راتب‭ ‬سنتين‭ ‬لشراء‭ ‬علبة‭ ‬واحدة‭)‬،‭ ‬ولدى‭ ‬دافني‭ ‬اليوم‭ ‬أموال‭ ‬ثابتة‭ ‬ومنقولة‭ ‬تقدر‭ ‬بالملايين،‭ ‬ولكن‭ ‬امرأة‭ ‬رضعت‭ ‬التعاسة‭ ‬والفقر‭ ‬لا‭ ‬تحس‭ ‬بأي‭ ‬سعادة،‭ ‬لأنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬امتلاك‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬محرومة‭ ‬منها؛‭ ‬فحتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تركت‭ ‬المزرعة‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬مقاطعة‭ ‬سومرست‭ ‬بإنجلترا،‭ ‬وانتقلت‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬صغير‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬قريبة،‭ ‬فإن‭ ‬الجيران‭ ‬لاحظوا‭ ‬أن‭ ‬بيتها‭ ‬يبقى‭ ‬مظلما‭ ‬طوال‭ ‬الليل،‭ ‬ولما‭ ‬سألوها‭ ‬عن‭ ‬السر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬قالت‭: ‬إن‭ ‬إضاءة‭ ‬الشارع‭ ‬تكفيها‭ ‬لرؤية‭ ‬الأشياء‭ ‬حولها،‭ ‬ومازالت‭ ‬دافني‭ ‬تشتري‭ ‬الملابس‭ ‬المستعملة،‭ ‬وعندما‭ ‬يقول‭ ‬لها‭ ‬الجيران‭ ‬إنها‭ ‬ستترك‭ ‬ملايينها‭ ‬ليستمتع‭ ‬بها‭ ‬آخرون،‭ ‬تقول‭ ‬لهم‭: ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يضايقها‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬معنى‭ ‬المتعة‭ ‬والسعادة‭!!‬

ذكرتني‭ ‬عائلة‭ ‬واتس‭ ‬التعيسة‭ ‬هذه‭ ‬بصديق‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إنه‭ ‬عند‭ ‬انتقال‭ ‬العائلة‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬قديم‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬جديد‭ ‬جميل‭ ‬لاحظ‭ ‬حرص‭ ‬أبيه‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬أكياس‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬مخزن‭ ‬مهمل،‭ ‬وكان‭ ‬يتساقط‭ ‬من‭ ‬الأكياس‭ ‬غبار‭ ‬نتن‭ ‬الرائحة،‭ ‬وسأل‭ ‬أباه‭ ‬عن‭ ‬محتوى‭ ‬الأكياس‭ ‬وعرف‭ ‬أنه‭ ‬جراد‭ ‬ظل‭ ‬الوالد‭ ‬يحتفظ‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬المخزن‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬‮«‬من‭ ‬باب‭ ‬الاحتياط‭ ‬للزمن‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬لذلك‭ ‬الوالد‭ ‬الملايين‭ ‬في‭ ‬البنوك‭. ‬ومات‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬وتخلص‭ ‬عياله‭ ‬من‭ ‬‮«‬بودرة‮»‬‭ ‬الجراد‭ ‬وملأوا‭ ‬الأكياس‭ ‬بالملايين‭ ‬التي‭ ‬تركها‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا