زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وفرحت لموت أبيها
تعرضت مرارا للانتقاد من قِبل عيالي لأنني رفضت الاستجابة لطلباتهم أو لأن رد فعلي على سلوك أو كلام صدر عنهم كان «مبالغا فيه» في تقديرهم، ولا أنكر أنني اعتقد أنه من واجب الوالدين التمتع بسلطات دكتاتورية في جوانب من أمور التربية، وخاصة تلك المتعلقة بالصواب والخطأ في السلوك والكلام، ومع هذا لا أحس بأنني أب «فاشل»، ولكنني وفي الوقت نفسه أدرك أنني لست أبا مميزا، وأذكر أنه في ذات مرة قال لي طفل: يا ريت (ليت) لو أنت أبوي، أحزنتني تلك العبارة لأنها كانت تعبيرا عن ضيق الطفل بفظاظة أبيه، أكثر من كونها تعبيرا عن إعجاب بي، وكان أبوه فعلا قاسي القلب يجلد عياله باللسان واليد، ثم قرأت في صحيفة إنجليزية ما قالته دافني واتس بمناسبة وفاة أبيها فرانسيس واتس: وددت لو أرقص فوق قبره. ولكنني رقصت في البيت، ودافني هذه ليست طفلة بل كانت امرأة في الواحدة والستين عندما مات أبوها، ولا تعاني من أي إعاقة عقلية أو ذهنية، وعبرت عن سعادتها بموت أبيها لأنه استعبدها طوال 43 سنة، فمنذ أن بلغت الخامسة عشرة جعلها تعمل في مزرعته التي تتألف من تسعين إيكر (الإيكر يساوي نحو 4000 متر مربع). تصحو في الخامسة صباحا، وتبدأ بتنظيف حظيرة الأبقار من الروث، ثم تقدم العلف للأبقار، وبعدها تحلب عشرات الأبقار. وتنتهي من مهمة وتنتقل إلى أخرى حتى مغيب الشمس، لتعود إلى غرفة ليست فيها تدفئة، وحمام ليست فيه مياه ساخنة، ولم يحدث قط أن اشترى لها أبوها ملابس جديدة، فكلما تقطعت ملابسها ذهب إلى محلات الملابس المستعملة واشترى لها بنطلونا واحدا وقميصا واحدا ويا ويلها لو اهترأ القميص أو البنطلون. وكان نصيبها من الطعام وجبتين يوميا. ولأن مسؤولين حكوميين كانوا يأتون إلى المزرعة لسبب أو لآخر فقد كان الأب يقدم ابنته إليهم على أنها «عامل» لديه، وكان يبرز لهم دفاتر توضح أنها تتقاضى الحد الأدنى من الأجر المنصوص عليه قانونا، ولكنه كان في واقع الأمر يعطيها 12 بنسا في الأسبوع (الإسترليني يساوي 100 بنس). الأم كاثلين التي ماتت قبل زوجها بأعوام قليلة لم تكن تبالي بالمعاملة السيئة التي تلقاها ابنتها، لأنها كانت تعرف أن فرانسيس اختارها زوجة، لأنها قوية البنية وقادرة على القيام بأعباء ثقيلة مثل قيادة الجرارات وتقليب التربة وبناء الحظائر. لم يحدث قط أن اشترى الوالدان لدافني لعبة بلاستيكية أو آيسكريم، ولم تسمع بأشياء مثل البيرغر ودجاج كنتاكي والبيتزا إلا بعد وفاة والدها قبل سنوات!! وكانت تحاول أن تسلي نفسها برسم بعض الأشياء على المعدات الزراعية ولكن والدها كان يلزمها بشراء علب الطلاء على نفقتها الخاصة (يعني راتب سنتين لشراء علبة واحدة)، ولدى دافني اليوم أموال ثابتة ومنقولة تقدر بالملايين، ولكن امرأة رضعت التعاسة والفقر لا تحس بأي سعادة، لأنها قادرة على امتلاك كل الأشياء التي نشأت محرومة منها؛ فحتى بعد أن تركت المزرعة التي تقع في مقاطعة سومرست بإنجلترا، وانتقلت إلى بيت صغير في قرية قريبة، فإن الجيران لاحظوا أن بيتها يبقى مظلما طوال الليل، ولما سألوها عن السر في ذلك قالت: إن إضاءة الشارع تكفيها لرؤية الأشياء حولها، ومازالت دافني تشتري الملابس المستعملة، وعندما يقول لها الجيران إنها ستترك ملايينها ليستمتع بها آخرون، تقول لهم: إن ذلك لا يضايقها لأنها لا تعرف معنى المتعة والسعادة!!
ذكرتني عائلة واتس التعيسة هذه بصديق قال لي إنه عند انتقال العائلة من بيت قديم إلى بيت جديد جميل لاحظ حرص أبيه على نقل أكياس كانت في مخزن مهمل، وكان يتساقط من الأكياس غبار نتن الرائحة، وسأل أباه عن محتوى الأكياس وعرف أنه جراد ظل الوالد يحتفظ به في المخزن نحو ثلاثين سنة «من باب الاحتياط للزمن»، وكان لذلك الوالد الملايين في البنوك. ومات ذلك الرجل وتخلص عياله من «بودرة» الجراد وملأوا الأكياس بالملايين التي تركها.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك