العدد : ١٧٢١٤ - السبت ١٠ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢١٤ - السبت ١٠ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

مقالات

حول نظرية القانون المشتغل بالكود (الرمز) Code-driven law

بقلم د. علي الصديقي

السبت ٠٨ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

تمر‭ ‬العلوم‭ ‬التجريبية‭ ‬بتحولات‭ ‬سريعة‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬لا‭ ‬نقف‭ ‬على‭ ‬تطوّر‭ ‬حتى‭ ‬يداهمنا‭ ‬تطوّر‭ ‬آخر‭ ‬أسرع‭ ‬منه‭. ‬فقبل‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬فقط،‭ ‬كنّا‭ ‬نناقش‭ ‬التوقيع‭ ‬الإلكتروني‭ ‬وحجية‭ ‬المحررات‭ ‬الإلكترونية‭. ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬أصبح‭ ‬اليوم‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬حيث‭ ‬صار‭ ‬حقيقة‭ ‬موجودة‭ ‬ومستقرة‭ ‬تتعامل‭ ‬القوانين‭ ‬المعاصرة‭ ‬معها‭. ‬فقد‭ ‬أسس‭ ‬التقدم‭ ‬المعلوماتي‭ ‬تياراً‭ ‬فكرياً‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬النزعة‭ ‬التقنية‭ ‬ليرى‭ ‬أنّ‭ ‬في‭ ‬التقنية‭ ‬حلاً‭ ‬للمشاكل‭ ‬التي‭ ‬تعانيها‭ ‬البشرية،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬يطرح‭ ‬أستاذ‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬هارفرد‭ (‬لورانس‭ ‬ليسيج‭) ‬مقولته‭ ‬‮«‬الكود‭ ‬هو‭ ‬القانون‮»‬‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنّ‭ ‬المبرمج‭ ‬يمارس‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬المجتمع‭. ‬وهكذا‭ ‬دخلت‭ ‬التقنية‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬علم‭ ‬القانون‭.‬

مؤخراً،‭ ‬فقد‭ ‬غيّرت‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬طريقة‭ ‬إدارتنا‭ ‬للمعرفة‭ ‬عموماً،‭ ‬والمعرفة‭ ‬القانونية‭ ‬خصوصاً‭. ‬وأصبحت‭ ‬الحاجة‭ ‬ملحة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬المشهد‭ ‬القانوني‭ ‬الجديد،‭ ‬حيث‭ ‬يمارس‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬معارفه‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬متوقعة‭ ‬وغير‭ ‬مرسومة‭ ‬ابتداءً‭. ‬إذ‭ ‬يقوم‭ ‬‮«‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬التوليدي‮»‬‭ ‬بمعالجة‭ ‬وتحليل‭ ‬وإعادة‭ ‬تصنيف‭ ‬المعلومات‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬دون‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬المساعدة‭ ‬الإنسانية‭. ‬فوُلدت‭ ‬فكرة‭ ‬الروبوت،‭ ‬ليقوم‭ ‬بما‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬الإنسان،‭ ‬فدخل‭ ‬شتى‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وقطاعاتها،‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬الممارسة‭ ‬القانونية‭ ‬ومنصات‭ ‬القضاء‭: ‬نُدخل‭ ‬النصوص‭ ‬بوصفها‭ ‬قاعدة‭ ‬معلومات‭ (‬تعليمات‭ ‬أساسية‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬يقوم‭ ‬الروبوت‭ ‬بمعالجتها‭ ‬وربطها‭ ‬بالوقائع‭ ‬العملية،‭ ‬ليقوم‭ ‬باتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬القانوني‭ ‬المناسب‭ ‬بشأن‭ ‬تلك‭ ‬الوقائع‭.‬

وفي‭ ‬محاولة‭ ‬لإيجاد‭ ‬تأسيس‭ ‬علمي‭ ‬لهذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬تشكلت‭ ‬نظرية‭ ‬قانونية‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬القانون‭ ‬المشتغل‭ ‬بالكود‮»‬‭ ‬Code‭-‬driven‭ ‬law،‭ ‬تنسف‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬فهمنا‭ ‬التقليدي‭ ‬لدور‭ ‬القانون‭ ‬والقضاء‭ ‬والإدارة‭ ‬المنفذة‭ ‬للقانون،‭ ‬بحيث‭ ‬تفترض‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭: (‬1‭) ‬دمج‭ ‬التشريع‭ ‬والتطبيق‭ ‬والتفسير‭ ‬معاً،‭ ‬أي‭ ‬القيام‭ ‬بالمهمة‭ ‬القانونية‭ ‬‮«‬دفعة‭ ‬واحدة‮»‬،‭ (‬2‭) ‬وبالتالي‭ ‬تقليص‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬السلطات‭ ‬الثلاث،‭ (‬3‭) ‬والتمازج‭ ‬بين‭ ‬‮«‬حكم‭ ‬القانون‮»‬‭ ‬و‮«‬أثره‭ ‬في‭ ‬الواقع‮»‬،‭ (‬4‭) ‬واعتبار‭ ‬‮«‬التفسير‭ ‬القانوني‮»»‬‭ ‬عملية‭ ‬بنيوية‭ ‬وليست‭ ‬وصفية‭ ‬للنص،‭ (‬5‭) ‬مما‭ ‬يوّلد‭ ‬نظاماً‭ ‬‮«‬قانوني‭-‬قضائي‮»‬‭ ‬مغلقا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التكوين‭. ‬وهكذا‭ (‬6‭) ‬تُطابق‭ ‬النظرية‭ ‬بين‭ ‬‮«‬قوة‭ ‬النص‮»‬‭ ‬و«قوة‭ ‬الكود‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحقق‭ ‬الأمن‭ ‬القانوني‭ ‬ووحدة‭ ‬التطبيق،‭ ‬بفهمٍ‭ ‬ينسجم‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬مع‭ ‬المدرسة‭ ‬الشكلية‭ ‬لمفهوم‭ ‬القانون‭ (‬يقترب‭ ‬من‭ ‬نمط‭ ‬المدرسة‭ ‬اللاتينية‭ ‬لا‭ ‬الأنجلوسكسونية‭)‬،‭ ‬ويؤدي‭ (‬7‭) ‬إلى‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬مشكلة‭ ‬‮«‬غموض‭ ‬القانون‮»‬،‭ ‬بحيث‭ ‬يمكن‭ ‬للأفراد‭ ‬التنبؤ‭ ‬بالقانون‭ ‬وأحكامه‭ ‬بشكل‭ ‬سريع‭.‬

على‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬تواجه‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬تحديات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬بينها‭: (‬1‭) ‬أنّ‭ ‬القاضي‭ ‬أو‭ ‬الممارس‭ ‬القانوني‭ ‬يمكنه‭ ‬إعادة‭ ‬تكييف‭ (‬أو‭ ‬تغيير‭ ‬تفسير‭) ‬نمط‭ ‬القانون‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬النص،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬نمط‭ ‬القانون‭ ‬المُشتغل‭ ‬بالكود،‭ ‬و‭(‬2‭) ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬القانون‭ ‬وتطبيقه‭ ‬ليس‭ ‬عملية‭ ‬حسابية‭ ‬بالضرورة،‭ ‬بل‭ ‬يحكمها‭ ‬السياق‭ ‬والوعي‭ ‬والفطنة‭ ‬والنباهة‭. ‬ثم‭ (‬3‭) ‬أنّ‭ ‬القانون‭ ‬المُشتغل‭ ‬بالكود‭ ‬يختزل‭ ‬معياريته‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الماضي‭ ‬بحيث‭ ‬يلتزم‭ ‬بقواعد‭ ‬نصية‭ ‬مسبقة‭ ‬وسوابق‭ ‬قضائية،‭ ‬ولا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬الحكم،‭ ‬أما‭ ‬القاضي‭ ‬أو‭ ‬الممارس‭ ‬البشري‭ ‬فيمكنه‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬وعياً،‭ ‬بل‭ ‬يرسم‭ ‬حدود‭ ‬ما‭ ‬يرغب‭ ‬القيام‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬معالجات‭.‬

برغم‭ ‬هذه‭ ‬الملاحظات،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكار‭ ‬تيار‭ ‬النزعة‭ ‬التقنية‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬النظريات‭ ‬القانونية‭ ‬السائدة،‭ ‬ولهذا‭ ‬يجب‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬المواءمة‭ ‬بين‭ ‬عدالة‭ ‬الأسس‭ ‬القانونية‭ ‬التقليدية‭ ‬الراسخة،‭ ‬وبين‭ ‬مستجدات‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬ودورها‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬تلك‭ ‬الأسس‭ ‬وتعزيزها‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬هدمها‭. ‬فكما‭ ‬يشير‭ (‬ميشيل‭ ‬جينيسيريث‭) ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬المعلومات‭ ‬القانونية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬ستانفورد‭: ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬حمورابي‭ ‬قد‭ ‬قام‭ ‬بتشفير‭ ‬قوانين‭ ‬الأرض‭ ‬عندما‭ ‬نقشها‭ ‬على‭ ‬حجر‭ ‬المسلّة،‭ ‬حوالي‭ ‬1750‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬ليتمكن‭ ‬المواطنون‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مُتوقع‭ ‬منهم‭. ‬فإنّ‭ ‬تشفير‭ ‬القانون‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬‮«‬كود‮»‬‭ ‬حاسوبي‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬خطوة‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬النظام‭ ‬القانوني‭ ‬ليعرف‭ ‬الأفراد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متوقع‭ ‬منهم‭ ‬وجزاءات‭ ‬مخالفة‭ ‬القانون‭.‬

 

مدرب‭ ‬ومستشار‭ ‬قانوني

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا