عالم يتغير

فوزية رشيد
مسلسلات لا تشبه رمضان في شيء!
{ نظرًا ما للدراما من أهمية وقيمة في توصيل الأفكار والرؤى، فإن كثيرًا من القائمين على الإنتاج الدرامي على المستوى العربي، لم يكتفوا بأحد عشر شهرًا من كل عام لمنتجاتهم الفنية والدرامية، وأغلبها خالية الدسم، وتصور أفكارًا تصبّ معظمها في الركاكة الدرامية، ومشاكل مفتعلة في جوّ هائج من الصراخ والخيانات الزوجية والتفكك الأُسري بشكل مبالغ فيه!
إلا أن هؤلاء المنتجين جعلوا من شهر رمضان شهرًا خاصًا لكل أشكال المسلسلات والبرامج الترفيهية، التي لا تمت بصلة إلى هذا الشهر! وكأن المهمة الأساسية هي إشغال الناس باللهو وإبعادهم عن العبادات، والزج بمواضيع تعاني الكثير من الترهل والسطحية، بل والابتذال!
{ ولعل ما يلفت النظر أيضًا في رمضان كل عام، هو خلوّ الأعمال الدرامية من المواضيع التاريخية والدينية إلا فيما ندر، وعدم تقديم هذا التاريخ برموزه وشخوصه المؤثرة في إطار معرفي وموضوعي ودرامي مشوق يُعرّف الأجيال الراهنة على الأحداث الفاصلة في تاريخها الديني والحضاري، بما أن رمضان هو شهر للعبادة والمعرفة الدينية! ولكن حتى ما يتم إنتاجه في هذا الإطار، وهو قليل، يتسم في أغلبه بعدم التعمق المعرفي في التاريخ والشخصيات، إلى جانب السيناريوهات والأحداث غير المشبعة فكريًا وروحيًا، وفي إطار المقارنة فإن المنتج الدرامي التركي في الأطر التاريخية والدينية يتسم بالاكتساح، رغم أن ما تقدمه هو تعزيز للهوية التركية والتاريخ العثماني، والرموز الدينية، إلا أنها تحمل في معالجاتها الدرامية الكثير من الاتقان والحِرفية والتشويق وتقديم المنظور الديني الإسلامي في إطار تاريخي وروحي متقن!
{ في الدراما العربية التاريخية والدينية قليلة هي الأفكار والرؤى التي تفتح الآفاق الروحية وأبوابها المغلقة، أو ما يقوّي المعرفة الدينية والتاريخية العميقة، وفق القراءات الجادة التي تتدارس الفكر والوعي الإسلامي وحضارته، منذ زمن النبي محمد عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين وصولاً إلى الأندلس وسقوطها، وما بعد ذلك من أحداث وتأثيرات مختلفة مرّت على العرب والمسلمين!
وعلى مكانة ودور الإسلام في الحياة من منطلقه الوسطي والمعتدل بعيدًا عن الاستخدامات المصلحية أو استغلاله كاسم للتطرّف والغلوّ، الذي وصموا الإسلام به وبكل ما يُشوه صورته من خلال نماذجهم المتطرفة!
{ ما رافق نمذجة التطرف، بروز التوجهات الباطنية وبعدها في العصر الراهن تعزيز التوجهات الإخوانية والمليشياوية، وهي التوجهات التي عملت الاستخبارات الغربية على دعمها وتكريسها لإيصالها إلى السلطة، في ظل الحرب على الإسلام بجوهره الحقيقي، واستبدال ذلك الجوهر بما يحمله من رسالة للإنسانية كلها، بصورة نمطية خاطئة عن الإسلام في العالم وما سُمي بالإسلاموفوبيا وربطه بالإرهاب والتخلفّ!، ولكأنه ليس دين الإنسانية والرحمة والقيم النبيلة الموجهة لكل البشرية!
{ وهنا نتساءل: أين الدراما العربية من التوظيف لبلورة حقيقة الإسلام، خاصة وهي تخصّ شهر رمضان بكل إنتاجها وبشكل مكثف عن بقية شهور العام؟!
ولماذا وللغرابة تزداد في هذا الشهر كل محاولات تأطيره بالشركيات والمظاهر السلبية، والتركيز البرامجي على المأكل والطبخ حدّ التخمة، وعلى الترفيه، ولكأنه شهر للفولكلور وليس شهرا للعبادة والتفكرّ الديني والروحي في الحياة، وتعميق الجوهر الإسلامي وقيمه الأخلاقية والنبيلة، التي تُرسخ أسمى ما في الإنسانية من قيم ونبل وأخلاق وعبادات ومعاملات ترتبط فكريًا وحياتيًا ببعضها؟! وأين مسلسلاتنا في هذا الشهر من ذلك؟!
{ الوعي الدرامي والتاريخي عربيًا، رغم أن أرض العرب هي منبع الإسلام، لا يزال يعاني من التقصير المخلّ في فهم الأبعاد الروحية والحياتية لدينها، ومن الوعي بالتاريخ ومعالجة أحداثه الكبرى والمهمة في ظل تلك الأبعاد! حتى أصبحت المسلسلات العربية في هذا الشهر وفي أغلبها، لا تمتّ بصلة إلى روحه وإلى استغلال مناسبته لطرح دراما عميقة وراقية، وكأنها أي الدراما حالها حال الجوانب الأخرى في الحياة العربية والإسلامية، تعاني بدورها من سطوة التبعية للقيم الغربية، ونموذجها الفاسد خاصة في الجانب الأخلاقي! وانعكاس ذلك على المعالجات الدرامية التي تتخذّ من هذا الشهر الفضيل بؤرة استحواذ وانطلاق لها بعيدًا عن روح رمضان، وما يمليه من تأمل وتفكرّ ومراجعة روحية أو تاريخية تعيد الجدوى والقيمة لأحداث كبرى منذ ظهور الإسلام كدين عالمي!
{ وبحسب ما يتيحه مقام هذا المقال، فإن تأمل كيفية التعامل مع شهر رمضان كل عام، يستوجب إعادة الاعتبار له روحيًا وإيمانيًا وفكريًا، وأهم المؤثرات الموصلة إلى كل ذلك هو الدراما العربية الرمضانية، حتى يدرك المسلمون ما يملكونه من قوة روحية كبيرة وعميقة، ومن قوة حياتية دافعة لكل ما فيه إصلاح للإنسان وروحه وللحياة وسلوكياتها وكيفية مواجهة تحدياتها وترجمة ذلك دراميًا، وكما كان يفعل المسلمون الأوائل وكما تفعل النماذج الإسلامية الحقيقية في كل عصر، فهؤلاء هم الذين جعلوا من الإسلام حضارة كبرى، وصلت إلى مشارق الأرض ومغاربها، واستندت على بلورة كل أشكال العلوم والمعارف بالنقد والإضافة، وقدموا نموذجًا روحيا وعلميًا ومعرفيًا وإرثًا إنسانيًا، كان الأخذ منه في الغرب يوما ما هو سبب لما أقاموا على أسسه حضارتهم ونهضتهم وباعتراف باحثيهم ومؤرخيهم الموضوعيين!
فهل يدرك القائمون على الدراما والمسلسلات ما لهذا الشهر من خصوصية وقيمة، وما يحمله من جوهر قائم على ربط الإيمان بالحياة، وربط التاريخ بالأحداث الفارقة، وربط الوعي بالجوهر الحقيقي لهذا الدين، لكي ينتجوا مسلسلات تتسم بالعمق والحرفية والبُعد الروحي والإنساني، الذي هو جوهر هذا الدين وجوهر شهر القرآن؟! متى سنرى ما يليق بهذا الشهر من دراما عربية، ومن مسلسلات هادفة ترتقي بالوعي ولا تُسِف فيه؟!
إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك