العدد : ١٧١٤٩ - الخميس ٠٦ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٤٩ - الخميس ٠٦ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ رمضان ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الحنين المستمر إلى بدين

مع‭ ‬مقدم‭ ‬رمضان‭ ‬والأعياد‭ ‬ينتابني‭ ‬حنين‭ ‬جارف‭ ‬إلى‭ ‬جذوري،‭ ‬إلى‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين،‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬النوبي،‭ ‬وفي‭ ‬موعد‭ ‬أذان‭ ‬المغرب‭ ‬يأتيني‭ ‬عبر‭ ‬السنين‭ ‬صوت‭ ‬‮«‬خيري‮»‬‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬وهو‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬تل‭ ‬رمل‭ ‬عال‭ ‬ويهدر‭ ‬بلسان‭ ‬نوبي‭ ‬يفتك‭ ‬بمعظم‭ ‬حروف‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭: ‬هَي‭ ‬على‭ ‬السلاة‭ (‬حي‭ ‬على‭ ‬الصلاة‭)/ ‬هي‭ ‬على‭ ‬الفلاه‭ (‬الفلاح‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬أهلي‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬‮«‬فيدي‮»‬‭ ‬يأتون‭ ‬بآنية‭ ‬الإفطار‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬الى‭ ‬مسجد‭ ‬أجدادي،‭ ‬ولكن‭ ‬الآذان‭ ‬صار‭ ‬عبر‭ ‬ميكروفون‭.‬

عائلة‭ ‬أبي‭ ‬معروفة‭ ‬بأحفاد‭ ‬هاج‭ (‬حاج‭) ‬كلتوما،‭ ‬وكلتوما‭ ‬هذا‭ ‬رجل،‭ ‬والاسم‭ ‬نوبي‭ ‬صرف‭ ‬وليس‭ ‬اشتقاقا‭ ‬من‭ ‬كلثوم،‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬عموم‭ ‬السودانيين‭ ‬وينادون‭ ‬كلثوم،‭ ‬كلتوم‭. ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬فإن‭ ‬النوبيين‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬غضاضة‭ ‬في‭ ‬الانتساب‭ ‬لأمهاتهم،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬من‭ ‬النوبيين‭ ‬كانوا‭ ‬يُعرَّفون‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أمهاتهم،‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬أجد‭ ‬غضاضة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يناديني‭ ‬بعض‭ ‬أهل‭ ‬منطقتي‭ ‬بجعفر‭ ‬ولد‭ ‬آمنة‭. ‬ويُذكر‭ ‬المصطفى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬ألسنة‭ ‬النوبيين‭ ‬دائما‭ ‬مقرونا‭ ‬دائما‭ ‬باسم‭ ‬أمه‭ ‬آمنة‭.‬

جزيرة‭ ‬بدين‭ ‬جزء‭ ‬أصيل‭ ‬من‭ ‬كرمة،‭ ‬عاصمة‭ ‬الدولة‭ ‬والحضارة‭ ‬النوبية‭ ‬العريقة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإنني‭ ‬نوبي‭ ‬قح،‭ ‬وأجيد‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬وأعشقها،‭ ‬بل‭ ‬يعتبرني‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أهلي‭ ‬ومعارفي‭ ‬حجة‭ ‬ومرجعا‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية،‭ ‬وقد‭ ‬ولد‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين‭ ‬وطفش‭ ‬منها‭ ‬وعمره‭ ‬نحو‭ ‬17‭ ‬سنة‭. ‬فديار‭ ‬النوبة‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬قاسية‭ ‬ولهذا‭ ‬يسمى‭ ‬القسم‭ ‬الأعظم‭ ‬منها‭ ‬‮«‬أرض‭ ‬الحجر‮»‬،‭ ‬فالصحراء‭ ‬النوبية‭ ‬تنتهي‭ ‬في‭ ‬ديارنا‭ ‬بمناطق‭ ‬جبلية‭ ‬وصخرية‭ ‬تخنق‭ ‬حوض‭ ‬النيل‭ ‬ولا‭ ‬تترك‭ ‬إلا‭ ‬فسحة‭ ‬ضيقة‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬تصلح‭ ‬للزراعة،‭ ‬وهكذا‭ ‬عرف‭ ‬أجدادنا‭ ‬الهجرة‭ ‬الى‭ ‬السودان‭ ‬الأوسط‭ ‬ومصر‭ ‬والسعودية‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬18‭.‬

أتيت‭ ‬إلى‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين‭ ‬صغيرا‭ ‬وناطقا‭ ‬بالعربية،‭ ‬بحكم‭ ‬المولد‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري،‭ ‬وسنوات‭ ‬الطفولة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬كوستي‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الأوسط،‭ ‬وفي‭ ‬مدرسة‭ ‬بدين‭ ‬الابتدائية،‭ ‬عانيت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬نحو‭ ‬سنتين‭ ‬من‭ ‬العزلة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بسبب‭ ‬حاجز‭ ‬اللغة‭ ‬فلم‭ ‬أكن‭ ‬أفهم‭ ‬النوبية،‭ ‬ولا‭ ‬كان‭ ‬زملائي‭ ‬يعرفون‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬العربية‭ ‬العامية،‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬صرت‭ ‬أفهم‭ ‬ثم‭ ‬أتكلم‭ ‬النوبية،‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬نسيت‭ ‬العربية‭ ‬تماما‭ ‬وصار‭ ‬اسمي‭ ‬جافر‭ ‬أباس،‭ ‬وكنت‭ - ‬بدون‭ ‬فخر‭ - ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬تلاميذ‭ ‬المدرسة‭ ‬بلادة‭ ‬وبؤسا‭ ‬أكاديميا،‭ ‬لأن‭ ‬حاجز‭ ‬اللغة‭ ‬منعني‭ ‬من‭ ‬تكوين‭ ‬بنية‭ ‬أساسية‭/ ‬تحتية‭ ‬قوية‭ ‬تكون‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاقي‭ ‬المدرسي‭. ‬ففي‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أستطيع‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬أقراني،‭ ‬ما‭ ‬جعلني‭ ‬انطوائيا،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬نسيت‭ ‬العربية،‭ ‬صرت‭ ‬لا‭ ‬أفهم‭ ‬شرح‭ ‬الدروس‭ ‬بالعربية‭! ‬وعجيب‭ ‬أمرنا‭ ‬نحن‭ ‬النوبيين‭: ‬نكتب‭ ‬مواضيع‭ ‬إنشاء‭ ‬بالعربية‭ ‬الفصحى‭ ‬ونتفوق‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬الأعراب،‭ ‬ولكننا‭ ‬نعجز‭ ‬عن‭ ‬التواصل‭ ‬بالعربية‭ ‬بلغة‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭.‬

وبالانتقال‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬المتوسطة‭ ‬حدثت‭ ‬لي‭ ‬الطفرة‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الكبرى،‭ ‬ففي‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬بدأنا‭ ‬تعلم‭ ‬الانجليزية،‭ ‬وعشقتها‭ ‬لأنها‭ ‬مثل‭ ‬النوبية‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬تذكير‭ ‬وتأنيث‭ ‬أو‭ ‬مثني،‭ ‬وليس‭ ‬فيها‭ ‬الحروف‭ ‬التي‭ ‬تسبب‭ ‬فتق‭ ‬الحجاب‭ ‬الحاجز‭ ‬للنوبي‭ ‬مثل‭ ‬العين‭ ‬والحاء‭ ‬والخاء‭ ‬والضاد،‭ ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬القسوة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬لزاما‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقيم‭ ‬في‭ ‬المسكن‭ ‬التابع‭ ‬للمدرسة‭ ‬والمسمى‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬داخلية‮»‬،‭ ‬تخيل‭: ‬صبية‭ ‬صغار‭ ‬أكملوا‭ ‬فقط‭ ‬اربع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬الابتدائي،‭ ‬وتتراوح‭ ‬أعمارهم‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬10‭-‬11‭ ‬سنة‭ ‬يفارقون‭ ‬أهلهم‭ ‬ليقيموا‭ ‬في‭ ‬عنابر‭ ‬تضم‭ ‬أناسا‭ ‬من‭ ‬قرى‭ ‬وبلدات‭ ‬مختلفة،‭ ‬وكل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬يعاني‭ ‬مرارة‭ ‬فراق‭ ‬الأهل‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬وبلدة‭ ‬البرقيق،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬المدرسة،‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬البيوت‭ ‬السكنية،‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬منطقة‭ ‬شديدة‭ ‬الرخاء‭ ‬لأنه‭ ‬بها‭ ‬مشروع‭ ‬زراعي‭ ‬ضخم‭ ‬يغطي‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الأفدنة،‭ ‬وكان‭ ‬الناس‭ ‬يتوجهون‭ ‬الى‭ ‬حقولهم‭ ‬على‭ ‬ظهور‭ ‬الحمير‭ ‬ويعودون‭ ‬الى‭ ‬بيوتهم‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬متفرقة‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬المساء،‭ ‬وبعدها‭ ‬تصبح‭ ‬المزارع‭ ‬وما‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أراض‭ ‬مرتعا‭ ‬للضباع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تهبط‭ ‬الى‭ ‬فناء‭ ‬المدرسة‭ ‬ليلا‭ ‬وتتجول‭ ‬فيها،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬للمدرسة‭ ‬سور‭ ‬خارجي‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬نبات‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬أهبل‮»‬،‭ ‬لأنه‭ ‬ينمو‭ ‬بالتيمم‭- ‬اقصد‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬الى‭ ‬سقي‭ ‬او‭ ‬رعاية‭ ‬بعد‭ ‬زرعه‭ ‬بنحو‭ ‬أسبوع،‭ ‬وكانت‭ ‬فروعه‭ ‬تتهشم‭ ‬بسهولة‭ ‬إذا‭ ‬عطس‭ ‬أحدهم‭ ‬عطسة‭ ‬‮«‬جامدة‮»‬‭ ‬بالقرب‭ ‬منها‭.‬

وأواصل‭ ‬استدعاء‭ ‬ذكريات‭ ‬الصبا‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا