زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الحنين المستمر إلى بدين
مع مقدم رمضان والأعياد ينتابني حنين جارف إلى جذوري، إلى جزيرة بدين، في شمال السودان النوبي، وفي موعد أذان المغرب يأتيني عبر السنين صوت «خيري» رحمه الله، وهو يقف على تل رمل عال ويهدر بلسان نوبي يفتك بمعظم حروف اللغة العربية: هَي على السلاة (حي على الصلاة)/ هي على الفلاه (الفلاح)، وما زال أهلي في حي «فيدي» يأتون بآنية الإفطار في رمضان الى مسجد أجدادي، ولكن الآذان صار عبر ميكروفون.
عائلة أبي معروفة بأحفاد هاج (حاج) كلتوما، وكلتوما هذا رجل، والاسم نوبي صرف وليس اشتقاقا من كلثوم، كما يفعل عموم السودانيين وينادون كلثوم، كلتوم. وعلى كل حال فإن النوبيين لا يرون غضاضة في الانتساب لأمهاتهم، بل حتى أبناء جيلي من النوبيين كانوا يُعرَّفون بالنسبة إلى أمهاتهم، وإلى يومنا هذا لا أجد غضاضة في أن يناديني بعض أهل منطقتي بجعفر ولد آمنة. ويُذكر المصطفى عليه السلام في ألسنة النوبيين دائما مقرونا دائما باسم أمه آمنة.
جزيرة بدين جزء أصيل من كرمة، عاصمة الدولة والحضارة النوبية العريقة، وبالتالي فإنني نوبي قح، وأجيد اللغة النوبية وأعشقها، بل يعتبرني الكثير من أهلي ومعارفي حجة ومرجعا في شؤون اللغة النوبية، وقد ولد أبي في جزيرة بدين وطفش منها وعمره نحو 17 سنة. فديار النوبة ذات طبيعة قاسية ولهذا يسمى القسم الأعظم منها «أرض الحجر»، فالصحراء النوبية تنتهي في ديارنا بمناطق جبلية وصخرية تخنق حوض النيل ولا تترك إلا فسحة ضيقة من الأرض تصلح للزراعة، وهكذا عرف أجدادنا الهجرة الى السودان الأوسط ومصر والسعودية منذ مطلع القرن 18.
أتيت إلى جزيرة بدين صغيرا وناطقا بالعربية، بحكم المولد في الخرطوم بحري، وسنوات الطفولة الأولى في كوستي في السودان الأوسط، وفي مدرسة بدين الابتدائية، عانيت على مدى نحو سنتين من العزلة الاجتماعية بسبب حاجز اللغة فلم أكن أفهم النوبية، ولا كان زملائي يعرفون شيئا من العربية العامية، وشيئا فشيئا صرت أفهم ثم أتكلم النوبية، وشيئا فشيئا نسيت العربية تماما وصار اسمي جافر أباس، وكنت - بدون فخر - من أكثر تلاميذ المدرسة بلادة وبؤسا أكاديميا، لأن حاجز اللغة منعني من تكوين بنية أساسية/ تحتية قوية تكون نقطة انطلاقي المدرسي. ففي بادئ الأمر لم أكن أستطيع التواصل مع أقراني، ما جعلني انطوائيا، وبعد أن نسيت العربية، صرت لا أفهم شرح الدروس بالعربية! وعجيب أمرنا نحن النوبيين: نكتب مواضيع إنشاء بالعربية الفصحى ونتفوق فيها على الأعراب، ولكننا نعجز عن التواصل بالعربية بلغة الحياة اليومية.
وبالانتقال إلى المرحلة المتوسطة حدثت لي الطفرة الأكاديمية الكبرى، ففي تلك المرحلة بدأنا تعلم الانجليزية، وعشقتها لأنها مثل النوبية ليس فيها تذكير وتأنيث أو مثني، وليس فيها الحروف التي تسبب فتق الحجاب الحاجز للنوبي مثل العين والحاء والخاء والضاد، ولكن كانت الأيام الأولى في المدرسة المتوسطة في منتهى القسوة، فقد كان لزاما علينا أن نقيم في المسكن التابع للمدرسة والمسمى في السودان «داخلية»، تخيل: صبية صغار أكملوا فقط اربع سنوات من التعليم الابتدائي، وتتراوح أعمارهم ما بين 10-11 سنة يفارقون أهلهم ليقيموا في عنابر تضم أناسا من قرى وبلدات مختلفة، وكل واحد منهم يعاني مرارة فراق الأهل لأول مرة، وبلدة البرقيق، حيث كانت المدرسة، كانت في معظمها خالية من البيوت السكنية، ولكنها كانت منطقة شديدة الرخاء لأنه بها مشروع زراعي ضخم يغطي مئات الآلاف من الأفدنة، وكان الناس يتوجهون الى حقولهم على ظهور الحمير ويعودون الى بيوتهم في مناطق متفرقة في أول المساء، وبعدها تصبح المزارع وما يحيط بها من أراض مرتعا للضباع التي كانت تهبط الى فناء المدرسة ليلا وتتجول فيها، فقد كان للمدرسة سور خارجي فقط من نبات يسمى «أهبل»، لأنه ينمو بالتيمم- اقصد لا يحتاج الى سقي او رعاية بعد زرعه بنحو أسبوع، وكانت فروعه تتهشم بسهولة إذا عطس أحدهم عطسة «جامدة» بالقرب منها.
وأواصل استدعاء ذكريات الصبا إن شاء الله
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك