العدد : ١٧١٤٧ - الثلاثاء ٠٤ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٤٧ - الثلاثاء ٠٤ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ رمضان ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

رمضان الذي صار أرمدان

عند‭ ‬أهلي‭ ‬النوبيين،‭ ‬أرمدان‭ ‬هو‭ ‬رمضان،‭ ‬فمن‭ ‬غرائب‭ ‬اللسان‭ ‬النوبي‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬تبدأ‭ ‬بالراء،‭ ‬ويسمي‭ ‬النوبي‭ ‬بنته‭ ‬رقية‭ ‬ولكنه‭ ‬يناديها‭ ‬‮«‬ارقية‮»‬،‭ ‬ولهذا‭ ‬فالنوبي‭ ‬يقول‭ ‬أرمدان،‭ ‬وهو‭ ‬يعني‭ ‬رمضان،‭ ‬ويصبح‭ ‬حرف‭/ ‬صوت‭ ‬الضاد‭ ‬‮«‬دال‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬محاولة‭ ‬نطق‭ ‬الضاد،‭ ‬تسبب‭ ‬للنوبيين‭ ‬التهابات‭ ‬الأذن‭ ‬والفم‭ ‬والمعدة‭ ‬والحنجرة‭.‬

وكلّما‭ ‬هلّ‭ ‬علينا‭ ‬رمضان‭ ‬أغوص‭ ‬في‭ ‬سنام‭ ‬الذاكرة‭ ‬وأتذكر‭ ‬سنوات‭ ‬طفولتي‭ ‬وصباي‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين‭ ‬النهرية‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬حيث‭ ‬أهلي‭ ‬النوبيون‭ ‬وعائلتي‭ ‬الممتدة،‭ ‬ومثوى‭ ‬أجدادي،‭ ‬وكان‭ ‬رمضان‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السن‭ ‬الغضة‭ ‬موسما‭ ‬لطيب‭ ‬الطعام،‭ ‬ففي‭ ‬بلدتنا‭ ‬تلك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬البيوت‭ ‬تعرف‭ ‬اللحم‭ ‬إلا‭ ‬يومي‭ ‬الاثنين‭ ‬والخميس‭ ‬المخصصين‭ ‬لـ«السوق‮»‬‭. ‬فتشتري‭ ‬أمهاتنا‭ ‬بعض‭ ‬اللحم‭ ‬فيكون‭ ‬لمائدتي‭ ‬الاثنين‭ ‬والخميس‭ ‬مذاق‭ ‬شديد‭ ‬الخصوصية،‭ ‬وكنت‭ ‬أعجب‭ ‬لماذا‭ ‬تحرص‭ ‬أمي‭ ‬على‭ ‬تربية‭ ‬الدجاج،‭ ‬بينما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تذبح‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬الارسال‭ ‬والتبييض،‭ ‬وعندها‭ ‬يصبح‭ ‬لحمها‭ ‬شيئا‭ ‬وسطا‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬البلاستيك‭ ‬والمطاط‭.‬

كان‭ ‬التعليم‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الابتدائية‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التلقين‭ ‬الببغاوي،‭ ‬ولا‭ ‬أذكر‭ ‬أو‭ ‬يذكر‭ ‬غيري‭ ‬مدرسا‭ ‬شرح‭ ‬لنا‭ ‬عمليا‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬الوضوء‭ ‬أو‭ ‬كيف‭ ‬تكون‭ ‬الصلاة،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬كنا‭ ‬مطالبين‭ ‬بحفظ‭ ‬فرائض‭ ‬وسنن‭ ‬ونواقض‭ ‬الوضوء‭ ‬غيبا،‭ ‬وانظر‭ ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬صبي‭ ‬يافع‭ ‬مثلي‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬أو‭ ‬نحوها،‭ ‬وأعجمي‭ ‬في‭ ‬عرف‭ ‬العرب‭ ‬مطالب‭ ‬بأن‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الوضوء‭ ‬فيه‭ ‬الاستنشاق‭ ‬والاستنثار‭ ‬ومسح‭ ‬صماخ‭ ‬الأذنين،‭ ‬ومن‭ ‬نواقضه‭: ‬ما‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬السبيلين‭. ‬وفيما‭ ‬يتعلق‭ ‬برمضان،‭ ‬فقد‭ ‬شحنونا‭ ‬عاطفيا‭ ‬بأن‭ ‬الصوم‭ ‬دليل‭ ‬المرجلة‭ ‬والرجولة،‭ ‬يعني‭ ‬لم‭ ‬يقولوا‭ ‬لنا‭ ‬ونحن‭ ‬صغار‭ ‬إن‭ ‬بإمكاننا‭ ‬الصيام‭ ‬الجزئي‭ ‬المتدرج‭ ‬المدى،‭ ‬كي‭ ‬نعتاد‭ ‬عليه‭ ‬عندما‭ ‬نصبح‭ ‬مكلفين‭ ‬بالصيام‭ ‬التام،‭ ‬وهكذا‭ ‬قررت‭ ‬ذات‭ ‬رمضان،‭ ‬وأنا‭ ‬دون‭ ‬العاشرة،‭ ‬الصيام‭ ‬التام،‭ ‬ومن‭ ‬عادة‭ ‬رجال‭ ‬أهل‭ ‬جزيرتنا‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬السباحة‭ ‬في‭ ‬النيل‭ ‬لعدة‭ ‬ساعات‭ ‬قبل‭ ‬الغروب،‭ ‬وهكذا‭ ‬ذهبت‭ ‬الى‭ ‬النهر‭ ‬لأسبح‭ ‬مع‭ ‬السابحين،‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬منتصف‭ ‬النهار،‭ ‬وكان‭ ‬الماء‭ ‬منعشا،‭ ‬وسبحت‭ ‬جيئة‭ ‬وذهابا‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬اتجاهات‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬ثم‭ ‬غصت،‭ ‬وعندها‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬مقاومة‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬شفط‭ ‬جرعة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬الماء،‭ ‬ففعلت‭ ‬وأحسست‭ ‬بنشاط‭ ‬دافق،‭ ‬وسبحت‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬قليلا‭ ‬ثم‭ ‬غصت‭ ‬وشفطت‭ ‬ماء‭ ‬كثيرا‭ ‬حتى‭ ‬طفوت‭ ‬دون‭ ‬كبير‭ ‬جهد،‭ ‬ثم‭ ‬أحسست‭ ‬بالإجهاد‭ ‬بدرجة‭ ‬أنني‭ ‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬مواصلة‭ ‬السباحة،‭ ‬وأمسك‭ ‬بي‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬السن‭ ‬وأخرجني‭ ‬من‭ ‬الماء‭.‬

تمددت‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ ‬الرملي،‭ ‬وبطني‭ ‬تكاد‭ ‬تنفجر‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬الامتلاء‭ ‬بالماء،‭ ‬ثم‭ ‬جلست‭ ‬واضعا‭ ‬رأسي‭ ‬بين‭ ‬الركبتين،‭ ‬فإذا‭ ‬بالماء‭ ‬ينساب‭ ‬من‭ ‬فمي‭ ‬لا‭ ‬إراديّا،‭ ‬وكلما‭ ‬تواصل‭ ‬انسكابه‭ ‬ازددت‭ ‬إحساسا‭ ‬بالراحة،‭ ‬وفجأة‭ ‬انتبهت‭ ‬الى‭ ‬انني‭ ‬محاصر‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الصبية‭ ‬يضحكون‭ ‬علي،‭ ‬ويهتفون‭: ‬ارمدان‭ ‬كبي،‭ ‬وتعني‭ ‬فاطر‭ ‬رمضان،‭ ‬ولازمتني‭ ‬هذه‭ ‬الكنية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬رمضان‭ ‬حتى‭ ‬فارقت‭ ‬ديار‭ ‬النوبة‭ ‬بعد‭ ‬الالتحاق‭ ‬بمدرسة‭ ‬ثانوية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الأوسط،‭ ‬ومازال‭ ‬بعض‭ ‬أصدقاء‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬يهنئونني‭ ‬مع‭ ‬مقدم‭ ‬الشهر‭ ‬الفضيل‭: ‬نبارك‭ ‬لك‭ ‬الشهر‭ ‬يا‭ ‬‮«‬أرمدان‭ ‬كبي‮»‬‭.‬

كان‭ ‬أهلنا‭ ‬لا‭ ‬يوقظوننا‭ ‬لمشاركتهم‭ ‬وجبة‭ ‬السحور‭ ‬حيث‭ ‬الطيبات،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬خطة‭ ‬تجعلنا‭ ‬شركاء‭ ‬أصيلين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الوجبة،‭ ‬وهكذا‭ ‬قررنا‭ ‬نحن‭ ‬صبية‭ ‬الحي‭ ‬لعب‭ ‬دور‭ ‬المسحراتي،‭ ‬وما‭ ‬جعل‭ ‬مهمتنا‭ ‬سهلة‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬ساعة‭ ‬سوى‭ ‬العمدة‭ ‬ومدير‭ ‬المدرسة‭ ‬الابتدائية،‭ ‬وكانا‭ ‬يسكنان‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬حيِّنا،‭ ‬فصرنا‭ ‬نلعب‭ ‬خارج‭ ‬البيوت‭ ‬حتى‭ ‬نحو‭ ‬العاشرة‭ ‬ليلا،‭ ‬ثم‭ ‬نحمل‭ ‬قطعا‭ ‬معدنية‭ ‬ونقرع‭ ‬عليها‭ ‬ونحن‭ ‬نصيح‭ ‬بلسان‭ ‬نوبي‭ ‬فصيح‭: ‬اسها‭ ‬يا‭ ‬سايم‭ ‬وهِّد‭ ‬الدايم‭ (‬اصح‭ ‬يا‭ ‬صايم‭ ‬وحِّد‭ ‬الدائم‭)‬،‭ ‬فيصحو‭ ‬أهل‭ ‬الحي،‭ ‬وتشرع‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬الشعيرية‭ ‬والرز،‭ ‬فنعود‭ ‬الى‭ ‬بيوتنا‭ ‬ويصبح‭ ‬من‭ ‬حقنا‭ ‬مشاركتهم‭ ‬الطعام‭.‬

كل‭ ‬عام‭ ‬وأنتم‭ ‬بخير،‭ ‬وأسأل‭ ‬الله‭ ‬ان‭ ‬يعيد‭ ‬علينا‭ ‬جميعا‭ ‬رمضانات‭ ‬عديدة‭ ‬ونحن‭ ‬ننعم‭ ‬بحسن‭ ‬الفأل‭ ‬وراحة‭ ‬البال‭ ‬ومال‭ ‬يستر‭ ‬الحال،‭ ‬وأن‭ ‬يرفع‭ ‬عن‭ ‬بلادي‭ ‬غائلة‭ ‬الحرب،‭ ‬وأن‭ ‬يزيل‭ ‬من‭ ‬مسرحها‭ ‬من‭ ‬يريدون‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬مراقي‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬جماجم‭ ‬المواطنين‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا