زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
رمضان الذي صار أرمدان
عند أهلي النوبيين، أرمدان هو رمضان، فمن غرائب اللسان النوبي أنه ليس فيه كلمة واحدة تبدأ بالراء، ويسمي النوبي بنته رقية ولكنه يناديها «ارقية»، ولهذا فالنوبي يقول أرمدان، وهو يعني رمضان، ويصبح حرف/ صوت الضاد «دال»، لأن محاولة نطق الضاد، تسبب للنوبيين التهابات الأذن والفم والمعدة والحنجرة.
وكلّما هلّ علينا رمضان أغوص في سنام الذاكرة وأتذكر سنوات طفولتي وصباي في جزيرة بدين النهرية في شمال السودان، حيث أهلي النوبيون وعائلتي الممتدة، ومثوى أجدادي، وكان رمضان بالنسبة لنا في تلك السن الغضة موسما لطيب الطعام، ففي بلدتنا تلك لم تكن البيوت تعرف اللحم إلا يومي الاثنين والخميس المخصصين لـ«السوق». فتشتري أمهاتنا بعض اللحم فيكون لمائدتي الاثنين والخميس مذاق شديد الخصوصية، وكنت أعجب لماذا تحرص أمي على تربية الدجاج، بينما لم تكن تذبح واحدة منها إلا بعد ان تتوقف عن الارسال والتبييض، وعندها يصبح لحمها شيئا وسطا ما بين البلاستيك والمطاط.
كان التعليم الديني في المدرسة الابتدائية يقوم على التلقين الببغاوي، ولا أذكر أو يذكر غيري مدرسا شرح لنا عمليا كيف يكون الوضوء أو كيف تكون الصلاة، ومع هذا كنا مطالبين بحفظ فرائض وسنن ونواقض الوضوء غيبا، وانظر إلى حال صبي يافع مثلي في السابعة أو نحوها، وأعجمي في عرف العرب مطالب بأن يعرف أن الوضوء فيه الاستنشاق والاستنثار ومسح صماخ الأذنين، ومن نواقضه: ما يخرج من السبيلين. وفيما يتعلق برمضان، فقد شحنونا عاطفيا بأن الصوم دليل المرجلة والرجولة، يعني لم يقولوا لنا ونحن صغار إن بإمكاننا الصيام الجزئي المتدرج المدى، كي نعتاد عليه عندما نصبح مكلفين بالصيام التام، وهكذا قررت ذات رمضان، وأنا دون العاشرة، الصيام التام، ومن عادة رجال أهل جزيرتنا في رمضان السباحة في النيل لعدة ساعات قبل الغروب، وهكذا ذهبت الى النهر لأسبح مع السابحين، في نحو منتصف النهار، وكان الماء منعشا، وسبحت جيئة وذهابا في عدة اتجاهات عدة مرات، ثم غصت، وعندها لم أستطع مقاومة الرغبة في شفط جرعة صغيرة من الماء، ففعلت وأحسست بنشاط دافق، وسبحت على السطح قليلا ثم غصت وشفطت ماء كثيرا حتى طفوت دون كبير جهد، ثم أحسست بالإجهاد بدرجة أنني عجزت عن مواصلة السباحة، وأمسك بي أحد كبار السن وأخرجني من الماء.
تمددت على الشاطئ الرملي، وبطني تكاد تنفجر من فرط الامتلاء بالماء، ثم جلست واضعا رأسي بين الركبتين، فإذا بالماء ينساب من فمي لا إراديّا، وكلما تواصل انسكابه ازددت إحساسا بالراحة، وفجأة انتبهت الى انني محاصر بعدد من الصبية يضحكون علي، ويهتفون: ارمدان كبي، وتعني فاطر رمضان، ولازمتني هذه الكنية في كل رمضان حتى فارقت ديار النوبة بعد الالتحاق بمدرسة ثانوية في السودان الأوسط، ومازال بعض أصدقاء تلك المرحلة يهنئونني مع مقدم الشهر الفضيل: نبارك لك الشهر يا «أرمدان كبي».
كان أهلنا لا يوقظوننا لمشاركتهم وجبة السحور حيث الطيبات، وهكذا كان لا بد من خطة تجعلنا شركاء أصيلين في تلك الوجبة، وهكذا قررنا نحن صبية الحي لعب دور المسحراتي، وما جعل مهمتنا سهلة هو أنه لم يكن في منطقتنا من يملك ساعة سوى العمدة ومدير المدرسة الابتدائية، وكانا يسكنان بعيدا عن حيِّنا، فصرنا نلعب خارج البيوت حتى نحو العاشرة ليلا، ثم نحمل قطعا معدنية ونقرع عليها ونحن نصيح بلسان نوبي فصيح: اسها يا سايم وهِّد الدايم (اصح يا صايم وحِّد الدائم)، فيصحو أهل الحي، وتشرع النساء في إعداد الشعيرية والرز، فنعود الى بيوتنا ويصبح من حقنا مشاركتهم الطعام.
كل عام وأنتم بخير، وأسأل الله ان يعيد علينا جميعا رمضانات عديدة ونحن ننعم بحسن الفأل وراحة البال ومال يستر الحال، وأن يرفع عن بلادي غائلة الحرب، وأن يزيل من مسرحها من يريدون الصعود إلى مراقي السلطة على جماجم المواطنين.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك