المواصفات التي تضعها الدول الغربية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ليست خالصة لوجه حماية الأمن الصحي للإنسان، والمعايير التي تُقررها هذه الدول في المجالات المختلفة لا تبتغي سلامة الإنسان أو سلامة البيئة التي نعيش فيها فقط، وإنما تشوبها دائماً شبهات توغل البعد السياسي والحزبي والشخصي، وتفوح منها رائحة جماعات الضغط ولوبي الشركات العملاقة المتنفذة التي تلعب بيدها وبمالها فتؤثر على اتجاه قرارات ومواقف رجال السياسة والتشريع والحكم.
فالمعايير البيئية، أو المعايير الصحية، أو المعايير الغذائية كلها يجب أن تمر أولاً على رقابة جماعات الضغط قبل أن تصل إلى مرحلة القرار النهائي والتنفيذ. فإذا كان المعيار في مجال البيئة ومصادر التلوث فسيخضع في البداية لمرئيات وموافقة شركات إنتاج واستخدام الوقود، إضافة إلى شركات تصنيع السيارات وغيرها من الشركات التي لها علاقة بهذا المعيار البيئي، كذلك إذا كانت المواصفة مرتبطة بالمنتجات الغذائية المجمدة والمعلبة وغيرهما، فإنها تعبر أولاً على اللوبي الغذائي والشركات الغذائية التي تعمل معها، وهكذا بالنسبة لأي نوع من المواصفات والمعايير التي تسعى الحكومة والجهات السياسية الأخرى إلى وضعها وتبنيها. مما يعني أن المعيار (مُسيس) وسيأخذ في الاعتبار مصالح هذه الشركات، وبالتحديد ترعى المصالح الاقتصادية والمصالح المرتبطة بالتوظيف والعمالة حتى لو كانت على حساب الجانب العلمي ونتائج الأبحاث العلمية، والجانب الصحي للإنسان وأمن المكونات البيئية الحية وغير الحية.
وهذا الاستنتاج الذي توصلتُ إليه مبني على وقائع ميدانية وأدلة علمية دامغة في حالات كثيرة جداً عانى منها الإنسان، منها الحالة الأخيرة التي خرجتْ إلى وسائل الإعلام حول العالم في 15 يناير 2025 بخصوص حظر استخدام مادة الصبغ الأحمر 3(Red Dye 3) في المنتجات الغذائية والمشروبات المختلفة والأدوية والعقاقير التي تؤخذ عن طريق الفم.
فتبدأ قصة هذه المادة المسرطنة مع الإنسان والمجتمع البشري في عام 1907 عندما تمت الموافقة على إضافته إلى المنتجات التي يستهلكها ويستخدمها الإنسان. فهذه المادة الصناعية يُطلق عليها علمياً اسم «إريثروسين» (erythrosine)، وتُضاف إلى المواد الغذائية لإعطائها اللون الأحمر الزاهي، أو الوردي الفاتح، ويمكن معرفتها في قائمة محتويات الأطعمة والمشروبات باسم «إي 127» (E127)، وتوجد في أكثر من 3000 منتج غذائي، بما في ذلك أنواع الحلوى المختلفة للأطفال، والآيس كريم، والجيلي الأحمر، والمخبوزات، ومشروبات الفراولة، وأدوية السعال والكحة. ولكن تمت الموافقة على إضافة هذه المادة الكيميائية الغريبة إلى طعام ومشروبات الإنسان بضغوط الشركات المصنعة لها دون إجراء الدراسات المتعلقة بسلامتها على الصحة العامة.
ومنذ عام 1907 حتى عام 1960 كانت المادة تستخدم على نطاق واسع جداً في منتجات غذائية وغير غذائية لا تعد ولا تحصى، حيث أجرت إدارة الغذاء والدواء مراجعة وتحديثا لجميع مضافات المنتجات الغذائية، بما في ذلك الصبغة الحمراء، فأعادت موافقتها كمضاف غذائي استسلاماً واستجابة لمصالح الشركات المتنفذة. ولكن في عام 1990 بسبب بعض الدراسات الطبية التي أشارت إلى وجود علاقة بين هذه المادة وسرطان الغدة الدرقية في فئران المعامل، قررت إدارة الغذاء والدواء منعها فقط في منتجات التبرج والزينة، ولكن من الغريب وغير المفهوم أنها لم تتخذ أي خطوة لحظرها كمضاف في آلاف المنتجات الغذائية التي يستهلكها الأطفال والشباب والكبار، بالرغم من تحذير العلماء بتهديدها للصحة العامة، ويرجع السبب وراء هذا الإجراء غير العملي وغير الصحي أن الشركات المصنعة ادعت بأنه لا يوجد دليل علمي دامغ على أن هذه المادة تصيب الإنسان بالسرطان.
ثم في نوفمبر عام 2022 تم تقديم عريضة والتماس من قبل عدة مجموعات ومنظمات معنية بحماية المستهلك منها «مركز العلوم للمصلحة العامة» لمنع الصبغة الحمراء من المنتجات الغذائية، بسبب الشكوك التي تحوم حولها بأنها تسبب السرطان، ولها علاقة بإصابة الأطفال بالنشاط المفرط.
واستجابة لهذه النداءات الشعبية وفي 15 يناير 2025، أي بعد قرابة ثلاث سنوات من تقديم العريضة، وبعد أكثر من قرن من استخدامها وتعريضها لصحة الناس والأطفال خاصة لتهديدات الإصابة بالأمراض المزمنة، أصدرتْ إدارة الغذاء والدواء أمراً بحظر إضافته إلى المواد الغذائية والمشروبات والأدوية، كما أعلنت بأن على منتجي المواد الغذائية والأدوية إزالتها بحلول 15 يناير 2027، وبحلول 18 يناير 2028، على التوالي، مما يعني أن أضرار هذه المادة المسرطنة ستستمر أكثر من ثلاث سنوات أخرى حتى تتم إزالتها كلياً من جميع المنتجات التي يستهلكها البشر!
الجدير بالذكر، أن ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية منعت إضافته إلى المنتجات الغذائية في أكتوبر 2023، كما أن دولاً أخرى حول العالم حظرت استخدامه قبل عقود طويلة من الزمن، مثل أستراليا، ونيوزيلندا، والاتحاد الأوروبي، واليابان.
فهذه الحالة تؤكد أن أي مواصفة في أي قطاع، وفي أي مجال تُوضع في الولايات المتحدة الأمريكية، أو في الدول الغربية عامة تكون عادة «مسيسة»، أي لا تستند فقط على الأدلة العلمية، ولا تبني قراراتها فقط على استنتاجات الدراسات الميدانية الموثوقة، وإنما تدخل عوامل أخرى تضعف من قوة هذه المواصفة، وتخفف من شدتها، وتؤثر على محتواها. فهذه المواصفات تأخذ في الاعتبار المصالح الاقتصادية للشركات الصناعية المتنفذة وذات السلطة على أي قرار سياسي تتخذه الحكومات، كما تأخذ في الاعتبار الجانب التقني والعملي في إمكانية تنفذ المواصفة على أرض الواقع من دون التأثير على أرباح الشركات وعلى العاملين فيها.
وبعد هذه التجربة المريرة مع مادة الصبغ الأحمر التي تغلغلت في أعماق صحة البشر وسلامتهم منذ أكثر من مائة عام، ستتكرر التجربة نفسها مع المواصفات في القطاعات الأخرى، ومع البديل لهذه المادة الحمراء المسرطنة، وسيمر الإنسان بالمراحل نفسها التي مرَّ فيها مع الصبغ الأحمر من دون أن يعتبر ويتعظ بالدرس الذي أمامه، حيث إن هناك مضافات غذائية أخرى تضيف ألوانا محددة إلى المنتجات الغذائية، كالأحمر، والأبيض، والأزرق، والأصفر، والأخضر، فمنها مازالت تستخدم حتى الآن، ومنها ما ستضاف كمادة جديدة من دون إجراء الدراسات اللازمة والمستفيضة لتأثيراتها على الصحة العامة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك