في الجزء الأول من المقال السابق حول «تطور الموسوعات المطبوعة من القرن الثامن عشر إلى العصر الحديث»، تم تسليط الضوء على إسهامات الفيلسوف والكاتب الفرنسي دينيس ديدرو من خلال موسوعته الشهيرة بعنوان «الموسوعة: أو القاموس الشامل للفنون والعلوم»، والتي نُشرت بين الأعوام 1751م و1772م وتضمنت 35 مُجلدًا، وكيف أسهم عمله بالإضافة إلى عددٍ من الأعمال الموسوعية التي انطلقت في أوروبا خلال القرن الثامن عشر الميلادي في انتشار ظاهرة إصدار الموسوعات الشاملة في أوروبا.
ويتناول الجزء الثاني من المقال التطور الذي شهده هذا المجال بعد انتشار موسوعة دينيس ديدرو، وكيف أسهم عمله في دفع عجلة وانتشار الموسوعات المطبوعة، حيث سيتم استعراض الخلفية التي أدت إلى ظهور الموسوعات الآتية: «الموسوعة البريطانية»، و«الموسوعة الأمريكية»، و«موسوعة كولير»، وانتشارهما في أوروبا والولايات المُتحدة الأمريكية.
في أعقاب عمل ديدرو الضخم، ظهرت «الموسوعة البريطانية» كأول موسوعةٍ رئيسةٍ وشاملةٍ باللغة الإنجليزية، وقد تم نشرها في الفترة ما بين الأعوام 1768م و1771م في إدنبرة، وكانت تحتوي في طبعتها الأولى على ثلاثة مُجلداتٍ تم العمل على إعدادها من قبل جمعيةٍ عُرفت باسم «جمعية مُجتمع السادة في اسكتلندا»، أما عن صاحبي المشروع فهُما: أندرو بيل، وكولين ماكفاركوهار، وقد أسهم في تحرير الموسوعة: وليام سميلي، وعُرفت الطبعة الأولى منها تحت عنوان «الموسوعة البريطانية: أو قاموس الفنون والعلوم، الذي تم تجميعه وفقًا لخطةٍ جديدة».
وقد جاءت «الموسوعة البريطانية» كردةِ فعلٍ على موسوعة ديدرو، حيث تطلعت إلى التميز عن سابقاتها من خلال تبني رؤيةٍ جديدةٍ شملت أسلوبًا جديدًا ومُبتكرًا في الفهرسة، بالإضافة إلى اختصار مادة الدراسات، والأهم شمول أكبر قدرٍ من المُساهمين المُتخصصين في كل مجال، ذلك في إطار حُمى التنافس الأوروبي على إصدار الموسوعات الشاملة آنذاك.
زاد عدد مُجلدات «الموسوعة البريطانية» في طبعتها الثانية عن 10 مُجلدات، فيما بلغ عدد المُجلدات أكثر من 20 مع حلول النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، وأسهم العديد من الخُبراء وكبار العلماء والباحثين في تحرير الموسوعة آنذاك، وكانت الموسوعة تُنقح وتُحدث بشكلٍ مُستمرٍ مع كل طبعة. وقد تم شراء حقوق الموسوعة في عام 1901م من قبل مجموعةٍ من التُجار الأمريكيين، يترأسهم السياسي الأمريكي من إلينوي وليام بينتون، وانتقلت مُلكيتها بين عددٍ من التُجار والشركات الأمريكية خلال العقود المُنصرمة، إذًا فإن «الموسوعة البريطانية» تُعدُ ومُنذُّ بدايات القرن العشرين الميلادي موسوعةً أمريكيةً بالرُغم من أنها تحمل اسم «الموسوعة البريطانية».
واجهت الموسوعة العديد من التحديات خلال مسيرتها أبرزها التبعات الاقتصادية المُتعلقة بـ«الكساد الكبير» الذي بدأ في عام 1929م، واستمر في ثلاثينيات القرن الماضي، ما دفع الموسوعة إلى ابتكار عددٍ من الأساليب التسويقية مثل المبيعات المُباشرة، وتخصيص عددٍ من الباحثات للإجابة عن استفسارات عامة الناس، ونُشر آخر نُسخةٍ مطبوعةٍ من الموسوعة في عام 2010م، وشملت على 32 مُجلدًا، وكرست الموسوعة جهودها للعمل على شبكة الإنترنت وبيع خدماتها عبر قناةٍ للاشتراك، فضلًا عن تطوير مجموعةٍ من البرامج التعليمية لمُختلف المراحل الدراسية.
بالتوازي مع بروز وتطور «الموسوعة البريطانية»، أخذت «الموسوعة الأمريكية» في الظهور، كمُساهمةٍ أمريكيةٍ مُهمةٍ في عالم الموسوعات، وجاءت بمُبادرةٍ من الفيلسوف الألماني – الأمريكي فرانسيس ليبر، ونُشرت الطبعة الأولى للموسوعة بين الأعوام 1829م و1833م باللغة الإنجليزية – الأمريكية، وكانت «الموسوعة الأمريكية» تتألف في البداية من 13 مُجلدًا، وهدفت إلى تقديم نظرةٍ عامةٍ وشاملةٍ على الثقافة والتاريخ والجغرافيا الأمريكية.
وتُعتبر الموسوعة أول موسوعةٍ يتم نشرها في الولايات المُتحدة الأمريكية، فيما توسعت تدريجيًّا، وضمت إليها في عددها الصادر ما بين 1918م و1920م 30 مُجلدًا، وتميزت مُنذُّ القرن العشرين الميلادي بإصدار كتابٍ سنويٍ لها يُغطي أبرز أحداث العام في شتى التخصصات، وتعود مُلكية الموسوعة اليوم إلى شركةٍ أمريكيةٍ وهي شركة «إستلاستيك».
وبالرُغم من أن الموسوعة شاملة وتُغطي شتى التخصصات والمجالات، إلا أنها ركزت وبشكلٍ رئيسٍ على تاريخ وجُغرافيا الولايات المُتحدة الأمريكية وكندا، فيما أسهم أكثر من 6 آلاف مُتخصصٍ في مجالاتٍ مُتنوعةٍ في إعداد مادة الموسوعة، فضلًا عن ضمها 1,200 خارطةً و4,500 صورة، وقد تم إصدار آخر عددٍ مطبوعٍ من الموسوعة في عام 2006م.
بالإضافة إلى ما تقدم، فهُناك موسوعةٌ أُخرى لاقت رواجًا بين الموسوعات المطبوعة الغربية، وهي الموسوعة المُعنونة باسم «موسوعة كولير»، التي نُشرت لأول مرةٍ في الفترة ما بين 1949م وحتى 1951م، وتتبع شركة بيتر فينيلون كولير وأبنائه، وهو أمريكيٌ من أصولٍ إيرلندية، وجاءت الطبعة الأولى في 20 مُجلدًا، وشهد عام 1997م طباعة آخر طبعةٍ من الموسوعة.
وتُعرف الموسوعات الثلاث «البريطانية»، و«الأمريكية»، و«كولير» في الولايات المُتحدة الأمريكية اليوم بمُسمى (The ABCs of Encyclopedias)، نسبةً للأحرف الأولى من كل موسوعةٍ باللغة الإنجليزية، وتفتخر المكتبات العالمية بحيازتها هذه المجموعةِ من الموسوعات، وكانت تُعلن توافرها على أرففها للباحثين والمُهتمين كوسيلةٍ لجذب القراء لزيارة المكتبة.
كما تجدر الإشارة إلى تفاخر الأسر فيما بينها في القرن العشرين الميلادي في العالم الغربي بحيازتهم مثل هذه الموسوعات ضمن أرشيف مكتبتهم، حيث كان الأمر يُعدُ علامةً ودلالةً بالنسبة إليهم آنذاك على ثقافة الأسرة صاحبة الموسوعة، بالإضافة إلى مؤشرٍ على قُدرتها الشرائية.
ختامًا، يُعدُ تطور الموسوعات المطبوعة شهادةً على تطلع البشرية الدائم الى المعرفة، وفي واقعنا اليوم، أصبح الوصول إلى أية معلومةٍ والحصول على تفاصيلها أمرًا أسهل بكثيرٍ مما كان الأمر عليه في الماضي، وذلك من خلال شبكة الإنترنت، بالرُغم من عدم وثوق ودقة تلك المعلومات في بعضٍ من الأحيان.
لقد أحدث هذا التحول من المُجلدات المطبوعة إلى المنصات الديناميكية عبر شبكة الإنترنت ثورةً في طريقة التفاعل مع مُختلف وسائل المعرفة بين أفراد الجيل المُعاصر، وسهل من عملية التحديث الفوري للمعلومات والبيانات وفي الوقت الفعلي.
{ المدير التنفيذي لمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك