العدد : ١٧١٣٦ - الجمعة ٢١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٣٦ - الجمعة ٢١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ شعبان ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

اغتسلوا يرحمكم الله

رغم‭ ‬اعتزازي‭ ‬بانتمائي‭ ‬النوبي،‭ (‬مع‭ ‬إدراك‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يجعلني‭ ‬مميزا‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬خلق‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬عشقت‭ ‬مدينة‭ ‬كوستي‭ ‬التي‭ ‬وهي‭ ‬وطني‭ ‬الثاني‭ ‬داخل‭ ‬الوطن‭ ‬الكبير،‭ ‬وكانت‭ ‬كوستي‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الأوسط‭ ‬قبل‭ ‬انفصال‭ ‬جنوب‭ ‬البلاد‭ ‬وتحوله‭ ‬الى‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة،‭ ‬مدينة‭ ‬جميلة‭ ‬ونظيفة،‭ ‬وبها‭ ‬سوق‭ ‬نشط‭ ‬تتدفق‭ ‬إليه‭ ‬المحاصيل‭ ‬الزراعية‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬والأقاليم‭ ‬القريبة،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬أكبر‭ ‬ميناء‭ ‬نهري‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬حيث‭ ‬تبدأ‭ ‬منها‭ ‬وتنتهي‭ ‬فيها‭ ‬حركة‭ ‬البواخر‭ ‬النهرية‭ ‬من‭ ‬وإلى‭ ‬ما‭ ‬صار‭ ‬اليوم‭ ‬جمهورية‭ ‬جنوب‭ ‬السودان،‭ ‬ثم‭ ‬تعرضت‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬للقتل‭ ‬العمد‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬قرية‮»‬‭ ‬مترهلة‭. ‬حتى‭ ‬الثمانينيات‭ ‬كنا‭ ‬نحن‭ ‬سكان‭ ‬المدينة‭ ‬نكاد‭ ‬نعرف‭ ‬بعضنا‭ ‬بعضا‭ ‬بالاسم،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬المميزة‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬شاب‭ ‬يُشاهد‭ ‬في‭ ‬الأمسيات‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬ودار‭ ‬السينما‭ ‬بكامل‭ ‬قيافته‭ ‬وأناقته،‭ ‬وسر‭ ‬تميزه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬كانوا‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬مهنته‭ ‬هي‭ ‬‮«‬عربجي‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬سائق‭ ‬عربة‭ ‬كارو‭ ‬يجرها‭ ‬حصان‭ ‬تقوم‭ ‬بنقل‭ ‬الأمتعة‭ ‬والبضائع‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الشاحنات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وحمل‭ ‬الأشياء‭ ‬على‭ ‬الظهر‭ ‬والأكتاف‭ ‬جزء‭ ‬أساسي‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬العربجي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فهو‭ ‬يرتدي‭ ‬ملابس‭ ‬مبهدلة‭ ‬تكون‭ ‬عادة‭ ‬مشبعة‭ ‬بالعرق،‭ ‬ورائحة‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬على‭ ‬كتفيه‭ ‬أو‭ ‬ظهره،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬اللافت‭ ‬للنظر‭ ‬أن‭ ‬حصان‭ ‬صاحبنا‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬أناقة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬النهار،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يعنى‭ ‬بتغذيته‭ ‬ونظافته،‭ ‬ولكن‭ ‬ومع‭ ‬هبوط‭ ‬المساء،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬العربجي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬حيث‭ ‬يقدم‭ ‬للحصان‭ ‬وجبة‭ ‬المساء‭ ‬ثم‭ ‬يستحم‭ ‬ويتعطر‭ ‬ويرتدي‭ ‬فاخر‭ ‬الثياب‭ ‬لقضاء‭ ‬المساء‭ ‬مرفها‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬عناء‭ ‬يوم‭ ‬شاق،‭ ‬وكان‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‭ ‬يحبونه‭ ‬ويحترمونه،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يتأفف‭ ‬من‭ ‬التعرق‭ ‬والاتساخ‭ ‬أثناء‭ ‬ساعات‭ ‬العمل،‭ ‬ثم‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‭ ‬حسنا‭ ‬في‭ ‬المظهر‭ ‬والرائحة‭.‬

جاء‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬إيرانية‭ ‬إن‭ ‬السيدة‭ ‬الإيرانية‭ ‬مينا‭ ‬طلبت‭ ‬الطلاق‭ ‬من‭ ‬زوجها‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يستحم‭ ‬طوال‭ ‬عام‭ ‬كامل‭ ‬وإنها‭ ‬وعيالها‭ ‬ما‭ ‬عادوا‭ ‬يطيقون‭ ‬رائحته،‭ ‬وأبلغت‭ ‬مينا‭ ‬المحكمة‭ ‬أن‭ ‬زوجها‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬حتى‭ ‬بغسل‭ ‬وجهه‭ ‬عند‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬من‭ ‬النوم‭ ‬صباحا‭. ‬ومفهوم‭ ‬ضمنا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬لا‭ ‬يصلي‭ ‬ولا‭ ‬يعاشر‭ ‬زوجته،‭ ‬فهذه‭ ‬وتلك‭ ‬تتطلب‭ ‬الغسل‭ ‬والاستحمام‭. ‬حكاية‭ ‬السيدة‭ ‬مينا‭ ‬مثال‭ ‬كلاسيكي‭ ‬لعقلية‭ ‬الرجل‭ ‬الشرقي‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬النظافة‭ ‬والتعطر‭ ‬والأناقة‭ ‬واجب‭ ‬الزوجة،‭ ‬فتجد‭ ‬رجلا‭ ‬يؤدي‭ ‬عملا‭ ‬يدويا‭ ‬شاقا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬وملابسه‭ ‬وكأنها‭ ‬صنعت‭ ‬من‭ ‬الكرتون‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬التشبع‭ ‬بالعرق،‭ ‬وأول‭ ‬ما‭ ‬يصدر‭ ‬عنه‭ ‬عندما‭ ‬تستقبله‭ ‬زوجته‭ ‬هو‭: ‬ريحتك‭ ‬ثوم‭ ‬وبصل‭!! ‬هي‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬‮«‬حاجة‭ ‬تفتح‭ ‬النفس‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يهمه‭ ‬أن‭ ‬رائحته‭ ‬ومنظره‭ ‬يسدان‭ ‬النفس‭! ‬ومن‭ ‬قرأوا‭ ‬مقالاتي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية‭ ‬ربما‭ ‬يذكرون‭ ‬تجربتي‭ ‬المؤلمة‭ ‬مع‭ ‬‮«‬عدم‭ ‬الاستحمام‮»‬‭ ‬طوال‭ ‬12‭ ‬يوما‭ ‬عندما‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬كطالب،‭ ‬وأقمت‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬للشباب‭ ‬كانت‭ ‬الحمامات‭ ‬فيه‭ ‬بلا‭ ‬أبواب،‭ ‬وكان‭ ‬المقيمون‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البيت‭ ‬ينتظرون‭ ‬دورهم‭ ‬في‭ ‬الاستحمام‭ ‬بالاصطفاف‭ ‬عراة‭ ‬وهم‭ ‬يتسامرون،‭ ‬فصحت‭ ‬فيهم‭: ‬هل‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬بابوا‭ ‬غينيا‭ ‬الجديدة؟‭ ‬وربما‭ ‬تذكرون‭ ‬أنني‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬تاكسي‭ ‬كانت‭ ‬سببا‭ ‬مباشرا‭ ‬لقراري‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬رخصة‭ ‬لقيادة‭ ‬السيارة،‭ ‬وكنت‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أحس‭ ‬بأن‭ ‬قيادة‭ ‬السيارة‭ ‬هي‭ ‬أثقل‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬قلبي‭.. ‬كان‭ ‬سائق‭ ‬التاكسي‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬الزوج‭ ‬الإيراني‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬‮«‬حساسية‭ ‬الماء‮»‬‭. ‬وكانت‭ ‬رائحة‭ ‬العفن‭ ‬التي‭ ‬تشبعت‭ ‬بها‭ ‬سيارته‭ ‬توحي‭ ‬بأنه‭ ‬يستخدمها‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬جلود‭ ‬التيوس‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع‭ ‬من‭ ‬ذبحها‭. ‬ذبحني‭ ‬الرجل‭ ‬بنتانته‭.. ‬وكثيرون‭ ‬منا‭ ‬يتأذون‭ ‬في‭ ‬صلوات‭ ‬الجماعة‭ ‬من‭ ‬مجاورة‭ ‬أشخاص‭ ‬يدخلون‭ ‬المساجد‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬قد‭ ‬استخدموا‭ ‬الماء‭ ‬لعدة‭ ‬أيام‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬الوضوء‭. ‬والنظافة‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬غسل‭ ‬الجسم‭ ‬والسواك،‭ ‬فكثيرون‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬نظافة‭ ‬اللسان‭ ‬واليد‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬نظافة‭ ‬الجسد‭ ‬فيصدر‭ ‬عنهم‭ ‬كلام‭ ‬وسخ‭ ‬وترتكب‭ ‬أيديهم‭ ‬أفعالاً‭ ‬أكثر‭ ‬وساخة،‭ ‬بينما‭ ‬تفوح‭ ‬روائح‭ ‬العطور‭ ‬الباريسية‭ ‬من‭ ‬أجسادهم‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا