كان هجوم «الصدمة والرعب» الذي شنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمجرد تنصيبه على كل المؤسسات الكبرى تقريبا في واشنطن ناجحا إلى حد ما.
هناك منطق منحرف يقف وراء تعييناته الوزارية المتطرفة، وعمليات الفصل والتهديدات الواسعة النطاق للقوى العاملة الفيدرالية، وأوامره التنفيذية المتلاحقة التي تهدد بتقويض الأوضاع القائمة.
وعلى غرار الهجوم الخاطف الذي أمر به الرئيس جورج دبليو بوش على بغداد عام 2003 في بداية حرب العراق، فإن نية ترامب تتلخص في استعراض ساحق للقوة، والضرب على جبهات متعددة من أجل إرباك خصومه وإحباطهم.
وفي حين ركزت أغلب تصرفات ترامب على الجبهة الداخلية، وخدمت أغراضها، فإنه رفع مستوى التحدي من خلال إلقاء بعض الاهتمام بالسياسة الخارجية كإجراء يريد من خلالها أن يلفت الانتباه ويحقق ما يريده من نتائج.
في ذات السياق، راح دونالد ترامب منذ تنصيبه يهدد باستعادة قناة من جمهورية بنما، وإجبار مملكة الدنمارك على بيع جرينلاند للولايات المتحدة الأمريكية، وضم كندا كولاية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وكما أوضحت ردود أفعال هذه الدول الثلاث – بنما والدنمارك وكندا– فإن أيًّا من «اختبارات» سياسة ترامب الخارجية وتحدياتها لم تخلف نفس التأثير أو النجاح الذي حققته غزواته التنمرية على مستوى السياسة الداخلية.
وفي مشروع آخر خيالي ومن دون كيشوتي في السياسة الخارجية، ألقى ترامب قنبلة في قلب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. واقترح أنه قبل البدء في إعادة إعمار غزة، سيكون من الضروري «تطهير غزة».
وتفيد التقارير بأنه في محادثات منفصلة مع العاهل الأردني الملك عبدالله والرئيس المصري السيسي، ضغط ترامب على كل منهما لقبول الجزء الأكبر من الفلسطينيين من غزة، مع استغلال ألبانيا وإندونيسيا كدعم لإعادة توطين الآخرين.
وإذا كان هدف ترامب هو زعزعة الأمور وإثارة رد الفعل، فقد فشل في تحقيق مآربه، إذ لم توافق أي من الدول المذكورة مصر والأردن وألبانيا وإندونيسيا على المشاركة في هذا المخطط الغريب.
وبعيداً عن هذا الرفض الواضح، فقد تجاهل الفلسطينيون إلى حد كبير هذا الطُعم الذي ألقاه ترامب، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى انشغالهم بالعودة المشحونة بالكثير من المشاعر الأليمة إلى «أنقاضهم» في شمال غزة ومحاربة الاحتلال العدواني المتزايد في الضفة الغربية.
لنكن واضحين: إذا استمرت المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار وانتقلت إلى المرحلتين الثانية والثالثة، عندما من المفترض أن تبدأ عملية إعادة الإعمار، فلا بد من مواجهة بعض القضايا الخطيرة.
على سبيل المثال، هناك مليونا فلسطيني بلا مأوى ومئات الآلاف من المنازل والمباني المهدمة. وتشير التقديرات إلى أن الأمر سيستغرق ما لا يقل عن عامين أو ثلاثة أعوام لإزالة الأنقاض أو إعادة استخدامها، وعقودًا لبناء مساكن كافية لاستيعاب أولئك الذين دمرت منازلهم.
وإذا كان المرء لا يعرف ترامب، أو حلفاءه في إسرائيل، فقد يعتقد البعض أن الرئيس الأمريكي كان يوجه نداءً عطوفًا إلى الجيران لإيواء الفلسطينيين المشردين حتى تصبح غزة جاهزة لاستقبالهم، غير أن الأمر لا ينطلي على الكثيرين لعدة أسباب.
من الواضح أن ترامب لم يبد أي تأثر بمعاناة الفلسطينيين في أي وقت من الأوقات، بل إنه يبدي اهتماما بإمكانية بناء منتجع على شواطئ غزة. وفي الوقت نفسه، أوضح ائتلاف نتنياهو أنه يريد طرد الفلسطينيين وتهجيرهم من قطاع غزة.
ونظراً لذلك كله، فإن «اقتراح» ترامب بنقل الفلسطينيين إلى مصر والأردن يبدو أشبه بمباركته لنكبة فلسطينية جديدة. فقد شهدت النكبة الأولى عام 1948 الإخلاء القسري لــ700 ألف فلسطيني من منازلهم، أعقبها هدم إسرائيل لأكثر من 420 قرية فلسطينية لضمان عدم تمكنهم من العودة.
ومن شأن هذه النكبة الثانية أن تعكس هذه العملية، حيث تقوم إسرائيل أولاً بهدم مناطق سكنية بأكملها في قطاع غزة، ثم «تنقل» مليوني فلسطيني إلى خارج بلادهم.
وإذا كنا قد تعلمنا أي شيء في التعامل مع بنيامين نتنياهو وائتلافه وداعميهم في واشنطن، فمن الأفضل ألا نفترض أبدًا أنهم لن يفعلوا أسوأ شيء ممكن. ربما يحاول ترامب نقل «صدمته ورعبه» إلى منطقة الشرق الأوسط أو يطرح ببراءة فكرة نقل الفلسطينيين لتسهيل عملية إعادة الإعمار.
ولكن الأرجح أنه يطلق «بالون اختبار» لصديقه بنيامين نتنياهو، لاختبار مدى قبول منطقة الشرق الأوسط لخطة الترحيل بدعوى أنها تهدف إلى «حل» المشكلة الفلسطينية.
وكما أشرت سابقا، ومع وجود الكثير من المشاكل والتحديات التي تتطلب اهتمامهم، لم يتفاعل الفلسطينيون ولا أنصارهم في جميع أنحاء العالم العربي أو يصبوا جام غضبهم على «اقتراح» ترامب. كما لم يتم اقتراح خطة لمعالجة كيفية إزالة الأنقاض وإعادة البناء مع وجود مليوني فلسطيني في أوضاع مأساوية.
ولكي يتم قبول أي خطة لإعادة التوطين وإعادة الإعمار في قطاع غزة، يجب استيفاء شرطين اثنين على الأقل. يجب على إسرائيل أن تنسحب أولا بالكامل من غزة، وتتخلى عن السيطرة على الوصول إلى القطاع والخروج منه.
ولا شك أن هذا الشرط المسبق ضروري حتى يشعر الفلسطينيون بالثقة بأنهم إذا غادروا غزة، فسيُضمن لهم حق العودة.
أما المشكلة الأخرى التي يتعين معالجتها فهي أن بعض الفلسطينيين العائدين من الجنوب إلى الشمال يجدون صعوبة في تحديد موقع منازلهم في السابق.
ولتجنب الارتباك أو الصراع، إذا لم تعد السجلات البلدية موجودة، يجب بذل جهد لرسم خريطة لغزة، حتى يتمكن الفلسطينيون من تحديد مواقع إقامتهم أو أعمالهم.
وبدون ضمانات صارمة بالعودة وخطة لتسهيل العودة إلى مواقع محددة، فإن الجهود المبذولة لإعادة التوطين وإعادة الإعمار بدلاً من حل المشكلة لن تؤدي إلا إلى خلق مشاكل أعمق.
ولأكثر من قرن من الزمان، ظلت القوى الغربية والحركة الصهيونية تتلاعب بالفلسطينيين. لقد تم تقطيع أوصال مجتمعاتهم وتشريدهم وتشتيتهم بين الأمم والدول. ومن خلال كل ذلك، أصبحت هوية الفلسطينيين الوطنية وارتباطهم بأراضيهم أقوى من أي وقت مضى.
ولهذا السبب، ظل الفلسطينيون يمثلون شوكة ثابتة في خاصرة من يضطهدونهم. لقد حان الوقت للولايات المتحدة أن تعترف بهذا الواقع، وبدلاً من تفاقم معاناة الفلسطينيين، يجب علينا تطوير خطة إنسانية لإنهاء الرفض الإسرائيلي لوضع نهاية للاحتلال وبالتالي تكريس الحقوق الفلسطينية التي حرموا منها منذ فترة طويلة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك