لا شك أن حرب أوكرانيا التي سوف تكمل عامها الثالث في 24 فبراير 2025 قد أكدت وبما لا يدع مجالاً لأدنى شك أن أوروبا تعاني من انكشاف أمني واضح، وما أقصده هنا هو الأمن الجماعي لمجموعة من الدول وقدرة إطار ذلك الأمن على تحقيق مفهوم الردع وهو ببساطة إرسال رسالة للخصم مفادها أنه سوف يتكبد خسائر هائلة حال إقدامه على عمل غير محسوب يهدد الأمن القومي لدولة أو مجموعة من الدول، وهو ما لم يتحقق في حرب أوكرانيا، فلم تكن هناك قوة أطلسية أو أوروبية حالت دون ذلك الغزو، ومن هنا تجئ أهمية القمة الثلاثية التي عقدت في 3 فبراير2025 ببروكسل بين دول الاتحاد الأوروبي «في قمة غير رسمية» ورئيس الوزراء البريطاني والأمين العام لحلف الناتو، والتي عكست ثلاث ملاحظات الأولى: إن الاجتماع تم تخصيصه فقط لغرض بحث مسألة الدفاع، والثانية: إنها لم تضم دول حلف الناتو ولكن الدول الأوروبية الـ27 أخذاً في الاعتبار أن هناك 23 دولة أوروبية هم أيضاً أعضاء في حلف الناتو، والثالثة: مشاركة بريطانيا في ذلك الاجتماع للمرة الأولى منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي وفقاً لاتفاق البريكست عام 2016.
وواقع الأمر أن قدرة أوروبا في الدفاع عن نفسها تكتنفها عدة تحديات مزمنة أولها: إن الاتحاد الأوروبي ذاته لم يؤسس لغرض دفاعي على غرار حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وإنما الهدف كان هو التكامل الاقتصادي، وبالرغم من أن الاتحاد قد شهد تطورات في الهيكل والسياسات وما صاحبها من مقترحات لإيجاد هوية أمنية للاتحاد ولكن لم تتمكن الدول الأوروبية في نهاية المطاف من تأسيس بديل أمني للناتو لديه القدرة على تحقيق مفهوم الردع ضمن الأمن الجماعي لتلك الدول، وثانيها: اعتماد الدول الأوروبية على الولايات المتحدة بشكل أساسي لحماية أمنها من خلال قيادة الولايات المتحدة تحالفات عسكرية عديدة لحماية المصالح الأوروبية ومنها تهديدات أمن الطاقة ومنها منطقة الخليج العربي والقرن الإفريقي التي شهدت تأسيس ثلاثة تحالفات لهذا الغرض، وثالثها: تداخل عضوية الدول الأوروبية كما سبقت الإشارة بين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
وإذا كانت تلك هي التحديات نتيجة التداخل والتشابك بين الأطراف الثلاثة وهي: أوروبا، الناتو، الولايات المتحدة فإن ثمة تحديات أخرى ترتبط برؤية الأطراف الثلاثة لواقع ومسؤولية ذلك الأمن، فالولايات المتحدة لطالما اتهمت الدول الأوروبية بأنها أشبه «بالراكب المجاني» أي أنها تحقق أمنها دون تحمل نفقات ذلك الأمن ولذلك كان –ولايزال– المطلب الرئيسي للرئيس ترامب من الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو تخصيص نسبة 2% وأحياناً يشير إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول لأغراض الدفاع، بعض الدول استجابت والبعض الآخر لا يزال يعلن وعوداً بذلك، من ناحية ثانية بالرغم من تأييد بعض الدول الأوروبية لفكرة تأسيس جيش أوروبي موحد فإن ذلك لا يحظى بتأييد تلك الدول كافة وخاصة الصغرى منها التي تخشى التهديد الروسي وترى في حلف الناتو صمام الأمان لأمنها القومي أخذاً في الاعتبار أن التقديرات تشير إلى حاجة الدول الأوروبية إلى حوالي 500 مليار يورو كاستثمارات في مجال الدفاع خلال العقد المقبل، ومن ناحية ثالثة إسهام الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة كبيرة في ميزانية حلف الناتو وتأثير ذلك في سياسات الحلف بلا شك، ناهيك عن فرض الرئيس ترامب رسوماً جمركية على كبار شركاء الولايات المتحدة التجاريين ومدى تأثير ذلك في تماسك الاتحاد الأوروبي والناتو في آن واحد على الرغم من تأكيد الأمين العام لحلف الناتو مارك روته خلال مشاركته في الاجتماع المشار إليه أن «التهديد بحروب تجارية الذي يلوح به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لن يؤثر في القوّة الرادعة للحلف».
ومع أهمية إعادة تأكيد الارتباط الوثيق بين أمن دول الناتو ودول الاتحاد الأوروبي إلا أن مشاركة بريطانيا في ذلك الاجتماع وهي الدولة الأطلسية أيضاً ولكنها ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي يعني ببساطة أن العالم سوف ينقسم مجدداً إلى معسكرين: الغربي والشرقي ولكن ليس ضمن حرب باردة ذات أبعاد أيديولوجية ولكن ضمن تحالفات متنوعة سياسية واقتصادية وذلك بسبب قناعة الدول الغربية بتنامي القوة الروسية ووجود مخاوف من تكرار حرب أوكرانيا على أراضي دولة أوروبية صغرى مستقبلاً في ظل نتائج حرب أوكرانيا التي تميل لصالح روسيا حتى الآن.
وبغض النظر عن نتائج التنسيق بين الأطراف الثلاثة فإن ثمة قراءة لدينا في الشرق الأوسط لتلك المعادلة تتمثل في عدة نقاط، الأولى: أن الولايات المتحدة لا تزال هي الدولة التي لديها القدرة على التدخل عسكرياً في الأزمات في ظل شروط حلف الناتو لذلك التدخل والدور الأمني الرمزي للاتحاد الأوروبي تجاه تهديدات الأمن الإقليمي ومن ذلك تهديدات الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر حيث أرسلت أوروبا بعثة بحرية وهي البعثة الرابعة للاتحاد في منطقة الشرق الأوسط عموماً، والثاني: اتجاه الصراع الغربي- الروسي للمزيد من الاحتدام يعني تعرض دول منطقة الشرق الأوسط للاستقطاب ضمن تحالفات وشراكات وأخرى مضادة مما يكرس حالة عدم الاستقرار الإقليمي، ولا يعني ذلك بالضرورة أن تكون ذات طابع عسكري فالبريكس تجمع اقتصادي يستهدف مناوئة هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي بغض النظر عن واقعية أهدافه، والثالث: احتمال توتر العلاقات الأوروبية مع الولايات المتحدة وتأثير ذلك على حالة التضامن وخاصة داخل حلف الناتو وهو ما سوف يؤثر في صورة الحلف لدى الشركاء الشرق أوسطيين وخاصة ضمن شراكات الحلف في تلك المنطقة.
وعود على ذي بدء ومع وضوح القدرات العسكرية للولايات المتحدة وكذلك حلف الناتو والذي وإن لم يخض مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، ولكن قدرات الحلف العسكرية أضعاف ما لدى روسيا، فإن المعضلة الأكبر ستبقى هي كيفية بناء بديل أمني ذاتي للاتحاد الأوروبي الذي وإن كانت دوله بالفعل قد بدأت في زيادة نفقاتها العسكرية بسبب حرب أوكرانيا بنسبة 30% عام 2024 مقارنة بعام 2021 ولكن الأهم هل يمكن ترجمة ذلك الإنفاق على أرض الواقع لتحقيق الردع؟ والإجابة تكمن في رد مارك روته الأمين العام للناتو بالقول: «الاتحاد الأوروبي لن يستطيع الدفاع عن نفسه دون الولايات المتحدة لأسباب عديدة والحل الأمثل هو أن نبقى متحدين».
ومجمل القول إن حرب أوكرانيا لم تنشئ حالة التصدع في الأمن الأوروبي أو الحديث عن تضامن حلف الناتو بل كانت كاشفة لتلك الثغرات التي تمثل تحدياً ليس فقط لأعضاء الاتحاد والحلف ولكن ما تتم معالجتها ستكون لها انعكاسات عالمية وشرق أوسطية ضمن تنامي أدوار روسيا والصين والهند في المنظومة العالمية والشراكات الإقليمية بشكل ملحوظ.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك