ما بين عامي 1917 و2025، مضى من الوقت ما يزيد على قرن من الزمن، وكأن التاريخ يعيد ذاته، مقولة تدور في فلك قوله تعالى في الآية 140 من سورة آل عمران: «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين».
ورغم أن المواثيق والعهود والقرارات الدولية، سواء ما صدر عن مجلس الأمن الدولي، أو ما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، فجميعها أكدت حق تقرير المصير لشعوب العالم. ولما كان الشعب العربي الفلسطيني أحد شعوب العالم، الذي لا يزال ينتظر بفارغ الصبر تطبيق عشرات القرارات الدولية الخاصة بتقرير مصيره، سبق للمدعو آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا في حينه، بأن قطع على نفسه وعداً بإقامة وطن لليهود في فلسطين في شهر نوفمبر من سنة 1917، ليكون وعده صدر عن شخص لا يملك لمن لا يستحق.
واستمرت حلقات المؤامرات الدولية على القضية الفلسطينية بصيغ متعددة، تحت جنح الظلام الداكن على مرّ السنوات الماضية، ليخرج علينا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فترة رئاسته للولايات المتحدة الأمريكية بين الأعوام 2017-2021، بفكرة تخرج عن سياق القانون الدولي، إذ بتاريخ 6-12-2017 أصدر وعداً بصيغة اعتراف مكتوب بأن إسرائيل لها الحق في تقرير عاصمتها، مضاف إلى ذلك إعلان نقل السفارة الأمريكية من تل- أبيب إلى القدس.
ومن ثم تستمر الأيام بالتداول وتمر بضع سنين، ورغم انتهاء ولاية ترامب في بداية عام 2021، يعود المذكور إلى رئاسة الولايات المتحدة في بداية عام 2025، وكرسيه مثقل بدماء الفلسطينيين على مدار سنة وثلاثة أشهر قبل تنصيبه رئيسا للمرة الثانية، نتيجة دعم مطلق من إدارة بايدن بالعتاد والأسلحة لدولة الاحتلال على مدار المدة المذكورة.
صحيح أن ترامب أوعز إلى مبعوثه قبل سويعات من يوم تنصيبه، بإلزام حكومة الاحتلال الإسرائيلي بإيقاف الحرب على أهل قطاع غزة، لتكون شاشات التلفزة العالمية منصبة فقط على حفل تنصيبه، لكن الزمن مضى ويمضي بعقد هدنة لا ندري مآلها، في ظل محاولة مختلف الفصائل الفلسطينية تصوير مشهد النصر من صفقة التبادل بين الأسرى الفلسطينيين والأسرى والرهائن الإسرائيليين، وهو أمر لم يرق للجانب الإسرائيلي، وفي ظل كسر إرادة الأخير بمشهد يوم عظيم من أيام الله يوم 27-1-2025، وجميع العالم شاهد عودة النازحين الفلسطينيين من جنوب القطاع إلى شماله.
هذا الحشد بعودة الأهالي من جنوب القطاع إلى شماله، الذي لم نشهد له مثيلاً منذ عام 1948م، بحيث تعود وأَلِفَ واعتاد العالم على رؤية الفلسطيني في حالة لجوء ونزوح وخروج من دياره بسبب الحروب المتتالية عليه، ولم يشهد العالم البتة حركة العودة بهذا الشكل والتعداد.
وحق العودة بالصورة المذكورة من جنوب القطاع إلى شماله، أكد لأول مرة منذ تاريخ الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي، واقعاً تاريخياً وقانونياً جديداً لم يكن ليطبق منذ 8 عقود، وكانت تلك الصورة من صور الله في وعده لعباده المؤمنين الصابرين، في يوم مبارك متصل بذكرى الإسراء والمعراج، وبالدليل القاطع والبرهان الجازم، بأن الفلسطيني لن يتزحزح عن أرضه التي باركها الله ببركة لا نظير لها.
إذن هذه المعادلة الجديدة التي فرضها أهل غزة، جعلت من ترامب وطاقمه مع دولة الاحتلال تحت اختبار حقيقي، إما بمعاداة الشرعية الدولية المتصلة بالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ومدى إنفاذ ميثاق الأمم المتحدة على دولة الاحتلال وحليفتها الولايات المتحدة الامريكية، وإما بتطبيق صحيح أحكام القانون الدولي، وإصدار إعلان من ترامب لتصحيح خطأه الاستراتيجي الذي ارتكبه نهاية عام 2017، بما سماه «حق إسرائيل في تقرير عاصمتها» واعتبار كامل القدس عاصمة لها، بإصدار إعلان موازٍ لإعلان عام 2017 مضمونه حق الشعب الفلسطيني في أن تكون القدس عاصمته، كأساس قانوني لإنفاذ القانون الدولي على ذلك الصراع وتطبيقا لقرارات الشرعية الدولية.
أعتقد جازماً أن ترامب لن يصدر إعلانه، ولن يكترث للواقع الفلسطيني، بل زاد من غطرسة الاحتلال بتزويده بقنابل أكثر فتكاً في أول أيام تنصيبه رئيساً للمرة الثانية، وخرج عن أدب وسياق التعامل الدبلوماسي بين الدول، ليحاول إرضاء عنجهية الاحتلال الذي رفض الأخير مشهد العودة، بل اعتبره جميع ساسة دولة الاحتلال نذير شؤم عليهم، لأن هذا الرجوع يشكل نواة حق العودة إلى قرى ومدن فلسطين التاريخية، المدعوم بقرارات أممية.
كما أزعجت عودة أهل غزة من جنوب القطاع إلى شماله ترامب، فأعلن مخططاته لتهجير أهل غزة الى دول مجاورة وطلب من دول أخرى استقبال عدد منهم، فعلى سبيل المثال طلب من ألبانيا استقبال 100 ألف غزيّ، ليمحو صورة العودة وليستأصل جذورها إلى الأبد تحت مسمى إعادة إعمار القطاع.
إن هذا الواقع المؤلم، الصادر عن رئيس أقوى دولة في العالم، ينم عن الاستخفاف بحقوق الآخرين، بل ينم عن حقد وتعال يخرج عن مقومات الإنسانية، لذا نجد أن ترامب بسياسته الجاهلة لطبيعة حقوق الشعب الفلسطيني، ولتأييده الأعمى المطلق لسياسة دولة الاحتلال لتتمادى أكثر بالباطل في مخالفة القوانين الدولية، بمنهجية نابعة عن سبق إصرار، وهذا الأمر حتما سيزيد من تماسك شعوب المنطقة في مواجهة مخططات ترامب ودولة الاحتلال، وسيؤدي إلى التحام وتماسك شعوبها بقياداتها، لا سيما في ظل ما أعلنه الرئيس المصري بمؤتمر صحفي بأن الأمن القومي لمصر، لن يسمح بقبول الفكرة والتفكير فيها، وهذا ما شدد عليه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني أيضا بتأكيد تثبيت الفلسطينيين على أرضهم. تصريحات ترامب تشكل وعداً جديدا ممن لا يملك الحق لمن لا يستحق أي الكيان الصهيوني، للإضرار بشعب لا يملك ترامب أو غيره حق التأثير على مصيره، لأنه بالعامية يقال: إن الشعب الفلسطيني لا يمون عليه أحد، إلا حريته وانعتاقه من الاحتلال. وعليه، فإن الوعد المشؤوم الجديد لترامب هو وصفة لمزيد من سفك الدماء في المنطقة، ستدخلنا في دوامة عنف لا نهاية لها.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك