كان العنوان الرئيسي الذي تصدر صحيفة التايمز أوف إسرائيل (Times of Israel) مؤخرا كالآتي «للمرة الأولى، خسرت إسرائيل الحرب للتو»، وهو عنوان يقول كل شيء.
وبغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء هذا المقال الصحفي الذي يتضمن أربع عشرة نقطة، فإنه يشير إلى حدث مدمر وغير مسبوق في تاريخ دولة إسرائيل الممتد إلى 76 عاما.
إن عواقب هذا الإدراك ستكون لها آثار بعيدة المدى على الإسرائيليين، مما يؤثر في هذا الجيل والجيل القادم، كما أن هذه التداعيات سوف تخترق جميع قطاعات المجتمع الإسرائيلي، من النخبة السياسية إلى الهوية الجماعية للإسرائيليين العاديين.
ومن المثير للاهتمام والمفيد أن المقال الصحفي المذكور يعزو هزيمة إسرائيل فقط إلى نتيجة حرب غزة، التي تقتصر على المنطقة الجغرافية لقطاع غزة.
لا توجد نقطة واحدة في المقال الصحفي المذكور تتناول الأزمة المستمرة داخل إسرائيل نفسها. كما أنه لا يستكشف التأثير النفسي لما يوصف بأنه الهزيمة الأولى لإسرائيل على الإطلاق.
وخلافاً للعمليات العسكرية السابقة التي نفذتها إسرائيل في غزة -على نطاق أصغر بكثير مقارنة بحرب الإبادة الجماعية الحالية- لا يوجد أي فئة كبيرة من المجتمع الإسرائيلي تدعي أن إسرائيل قد حققت النصر في حربها على الفلسطينيين في قطاع غزة.
إن الخطاب المألوف المتمثل في «اقتلاع العشب»، والذي تستخدمه إسرائيل غالبًا لوصف حروبها، كان هذه المرة غائبا بشكل ملحوظ. وبدلاً من ذلك، هناك شبه إجماع داخل إسرائيل على أن اتفاق وقف إطلاق النار كان سيئاً بشكل لا لبس فيه، بل وكارثيا بالنسبة إلى البلاد التي تتبجح بأنها انتصرت في كل حروبها.
إن كلمة «سيئة» تحمل مضامين واسعة النطاق. فبالنسبة إلى وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتامار بن جفير، يمثل ذلك «استسلامًا كاملاً». أما بالنسبة إلى وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، فهو يمثل «صفقة خطيرة» تعرض «الأمن القومي» لإسرائيل للخطر.
وامتنع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ عن تقديم تفاصيل سياسية، لكنه تناول الاتفاق بعبارات قوية بالقدر نفسه: لا تكون هناك أوهام. هذه الصفقة -عند التوقيع عليها والموافقة عليها وتنفيذها- ستجلب معها لحظات مؤلمة وصعبة ومروعة للغاية.
وحاول وزير الخارجية جدعون ساعر، إلى جانب مسؤولين إسرائيليين آخرين، تبرير الصفقة من خلال تأطير هدف إسرائيل النهائي على أنه تحرير الأسرى، حيث قال: «إذا أجلنا القرار فمن يدري كم سيبقى من الأسرى الإسرائيليين على قيد الحياة؟».
ومع ذلك، فإن الكثيرين في إسرائيل، إلى جانب عدد متزايد من المحللين، يشككون الآن في رواية الحكومة. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد رفض في السابق اتفاقات مماثلة لوقف إطلاق النار في شهري مايو ويوليو الماضيين، مما يعيق أي إمكانية للتفاوض.
وفي الفترة ما بين ذلك الرفض والقبول النهائي للصفقة، قُتل أو جُرح عشرات الآلاف من الفلسطينيين. وفي حين تم تجاهل هذه المآسي أو تجاهلها بالكامل في إسرائيل، فقد قُتل العديد من الأسرى الإسرائيليين أيضًا، معظمهم في ضربات عسكرية إسرائيلية.
ولو قبل نتنياهو الصفقة في وقت سابق، لكان من المرجح أن العديد من هؤلاء الأسرى ما زالوا على قيد الحياة. ستظل هذه المسألة ترخي بظلالها على ما تبقى من مسيرة نتنياهو السياسية، مما يزيد من تحديد ورسم إرثه المثير للجدل والمليء بالفساد.
في نهاية المطاف، فشل نتنياهو على جبهات متعددة. في البداية، أراد أن يمنع ائتلافه اليميني المتطرف من الانهيار، حتى على حساب معظم الإسرائيليين. وفي وقت مبكر من مايو 2024، أعطى الكثيرون الأولوية لعودة الأسرى على استمرار الحرب.
ولم يكن تنازل نتنياهو النهائي مدفوعاً بضغوط داخلية، بل بإدراكه الصارخ أنه لم يعد قادراً على تحقيق النصر الذي يريد في قطاع غزة. وصلت الأزمة السياسية التي كانت تختمر في إسرائيل إلى نقطة الانهيار حيث سعت حكومة نتنياهو جاهدة للتغلب على السخط المتزايد في الشارع الإسرائيلي.
وفي مقال نشر بعد وقت قصير من إعلان وقف إطلاق النار، أعلنت صحيفة يديعوت أحرونوت أن نتنياهو قد هُزم سياسياً، في حين تم إلقاء اللوم على رئيس أركانه، هرتسي هاليفي، في الفشل العسكري.
في الواقع، فقد فشل نتنياهو على الجبهتين. وقد حثه الجنرالات العسكريون مرارا وتكرارا على إنهاء الحرب، معتقدين أن إسرائيل حققت انتصارات تكتيكية في غزة. وخلال الحرب، تعمقت الأزمات السياسية والاجتماعية في إسرائيل.
لجأ نتنياهو بحكم وجوده على رأس السلطة إلى ممارسة تكتيكاته وألاعيبه القديمة. وبدلاً من إظهار القيادة الحقيقية، انخرط في التلاعب السياسي، والكذب عندما كان ذلك يناسبه، وهدد أولئك الذين رفضوا اتباع قواعده، وتهرب من المسؤولية الشخصية.
ومن ناحية أخرى، أصبح الجمهور الإسرائيلي يشعر بخيبة أمل متزايدة إزاء اتجاه الحرب، ويشعر بالإحباط إزاء نتنياهو وائتلافه.
وفي النهاية، انهارت البنية «الكافكاوية» للحكم الإسرائيلي برمتها. إن الفشل في إدارة الأزمة السياسية والاستراتيجية العسكرية أدى إلى إضعاف القيادة الإسرائيلية وتفاقم عزلتها بشكل متزايد عن الشارع السياسي والشعبي.
وبطبيعة الحال، لن يستسلم نتنياهو بسهولة. ومن المرجح أن يحاول إرضاء بن جفير من خلال الإصرار على احتفاظ إسرائيل بحق العودة إلى الحرب في أي وقت، كما أنه من المرجح أن يمكّن سموتريش من توسيع المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، وقد يحاول استعادة سمعة الجيش من خلال تصعيد العمليات هناك.
قد تمنح هذه التصرفات والألاعيب نتنياهو بعض الوقت، لكنها لن تدوم. وتسعى غالبية الإسرائيليين الآن إلى إجراء انتخابات جديدة. ورغم أن الانتخابات السابقة تجاهلت الفلسطينيين، فإن الانتخابات المقبلة سوف تتحدد بالكامل تقريباً من خلال الحرب في غزة وتداعياتها.
وتواجه إسرائيل الآن واقع الفشل السياسي والعسكري على نطاق لم يكن من الممكن تصوره من قبل. وسوف نتذكر طريقة تعامل نتنياهو مع الوضع باعتبارها لحظة رئيسية في تاريخ البلاد، وسوف تستمر عواقبها الوخيمة في التأثير في المجتمع الإسرائيلي سنوات قادمة.
ويبدو أن خروج بنيامين نتنياهو من المسرح السياسي سيكون في نهاية المطاف أمرا لا مفر منه، سواء بسبب نتائج الحرب أو الانتخابات المقبلة أو ببساطة بسبب المرض والشيخوخة.
ومع ذلك، فإن الآثار المادية والنفسية لحرب غزة على المجتمع الإسرائيلي ستبقى قائمة، ومن المرجح أن تكون لها عواقب وخيمة لا رجعة فيها. بل من الممكن أن تهدد هذه التأثيرات بقاء إسرائيل نفسها.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك