العدد : ١٧١٢٦ - الثلاثاء ١١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٢٦ - الثلاثاء ١١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ شعبان ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الغش بذكاء وخبث

التقيت‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬صديقا‭ ‬شكا‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬فصل‭ ‬ابنه‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬أمريكية‭ ‬لعام‭ ‬دراسي‭ ‬كامل‭ ‬بعد‭ ‬ضبطه‭ ‬وهو‭ ‬يغش‭ ‬في‭ ‬الامتحانات‭ ‬بطريقة‭ ‬‮«‬بلدية‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬مكشوفة‭ ‬وساذجة‭. ‬وتذكرت‭ ‬حكاية‭ ‬كتبت‭ ‬عنها‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬وتدور‭ ‬وقائعها‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬العند‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬اسمها‭ ‬دار‭ ‬السلام‭. ‬فخلال‭ ‬أحد‭ ‬مواسم‭ ‬الامتحانات،‭ ‬جلس‭ ‬رئيس‭ ‬مركز‭ ‬الامتحانات‭ ‬ومساعدوه‭ ‬من‭ ‬المراقبين‭ ‬يشربون‭ ‬الشاي‭ ‬قبل‭ ‬ان‭ ‬يقرع‭ ‬الجرس‭ ‬إيذانا‭ ‬ببدء‭ ‬الامتحانات‭.. ‬ثم‭ ‬توزعوا‭ ‬على‭ ‬قاعات‭ ‬الامتحانات،‭ ‬ليراقبوا‭ ‬الطلاب‭ ‬وهم‭ ‬يجيبون‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الضوابط‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها،‭ ‬ولكنهم‭ ‬بدأوا‭ ‬يشعرون‭ ‬بالنعاس‭ ‬والاسترخاء،‭ ‬بل‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬أعطاها‭ ‬نومة‭ ‬مصحوبة‭ ‬بزفير‭ ‬وشخير‭. ‬وهم‭ ‬داخل‭ ‬قاعات‭ ‬الامتحان‭. ‬وانتبه‭ ‬رئيس‭ ‬المركز‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬طالبين‭ ‬شربا‭ ‬الشاي‭ ‬مع‭ ‬المراقبين‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الإناء‭ (‬الدلة‭) ‬أصيبا‭ ‬أيضا‭ ‬بالنعاس،‭ ‬فجرجر‭ ‬أقدامه‭ ‬وأبلغ‭ ‬مدير‭ ‬مكتب‭ ‬التربية‭ ‬بالمحافظة‭ ‬بحالة‭ ‬النوم‭ ‬والنعاس‭ ‬الوبائي‭ ‬الذي‭ ‬اجتاح‭ ‬المدرسة‭ ‬فتحركت‭ ‬الشرطة،‭ ‬وصادرت‭ ‬إبريق‭ ‬الشاي‭ ‬المشتبه‭ ‬به،‭ ‬وتم‭ ‬فحص‭ ‬محتوياته‭ ‬في‭ ‬مختبر‭ ‬طبي،‭ ‬واتضح‭ ‬انها‭ ‬تحوي‭ ‬حبوبا‭ ‬مأخوذة‭ ‬من‭ ‬شجرة‭ ‬تسمى‭ ‬محليا‭ ‬‮«‬البنج‮»‬،‭ ‬لكونها‭ ‬ذات‭ ‬خواص‭ ‬تخديرية‭ ‬تماثل‭ ‬البنج‭ ‬المستخدم‭ ‬في‭ ‬العمليات‭ ‬الجراحية‭. ‬وتولت‭ ‬الشرطة‭ ‬القضية‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬اتضح‭ ‬ان‭ ‬مجموعة‭ ‬ما‭ ‬عمدت‭ ‬الى‭ ‬تخدير‭ ‬مراقبي‭ ‬الامتحانات‭ ‬حتى‭ ‬يكونوا‭ ‬في‭ ‬‮«‬وادٍ‮»‬‭ ‬والطلاب‭ ‬في‭ ‬وادٍ‭ ‬آخر‭. ‬وذكرني‭ ‬ذلك‭ ‬بأمر‭ ‬آخر‭ ‬يتعلق‭ ‬بابتكار‭ ‬يمني‭ ‬ينم‭ ‬عن‭ ‬عقل‭ ‬مبدع،‭ ‬ففي‭ ‬أواخر‭ ‬أيام‭ ‬الرئيس‭ ‬اليمني‭ ‬الراحل‭ ‬علي‭ ‬عبدالله‭ ‬صالح،‭ ‬تم‭ ‬ضبط‭ ‬حمار‭ (‬نعم‭ ‬حمار‭ ‬ذي‭ ‬أربع‭ ‬أرجل‭) ‬يقف‭ ‬أمام‭ ‬مبنى‭ ‬البرلمان،‭ ‬فاقترب‭ ‬منه‭ ‬شرطي‭ ‬ليبعده‭ ‬عن‭ ‬المبنى،‭ ‬ولكنه‭ ‬انتبه‭ ‬الى‭ ‬طقطقة‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬الحمار،‭ ‬فأتى‭ ‬ببعض‭ ‬العلف‭ ‬ونجح‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬الحمار‭ ‬بالابتعاد‭ ‬عن‭ ‬البرلمان‭... ‬باختصار‭ ‬كان‭ ‬الحمار‭ ‬ملغوما‭ ‬وتم‭ ‬استدراجه‭ ‬الى‭ ‬منطقة‭ ‬نائية‭ ‬وتفجيره‭.‬

وخلال‭ ‬سنوات‭ ‬عملي‭ ‬بالتدريس‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الغش‭ ‬ظاهرة‭ ‬مقلقة،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬معظمه‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬مد‭ ‬العنق‭ ‬لرؤية‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬المتفوقون‭. ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬ذات‭ ‬عام‭ ‬أبلغنا‭ ‬حارس‭ ‬المدرسة‭ ‬ان‭ ‬طالبين‭ ‬يأتيان‭ ‬بانتظام‭ ‬الى‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬الأمسيات‭ ‬ثم‭ ‬يتسللان‭ ‬الى‭ ‬دورة‭ ‬مياه‭ ‬معينة‭ ‬بالتناوب‭. ‬توجهنا‭ ‬الى‭ ‬دورة‭ ‬المياه‭ ‬تلك‭ ‬أنا‭ ‬وزملاء‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬هيئة‭ ‬التدريس‭ ‬ووجدنا‭ ‬عليها‭ ‬قفلا‭ (‬طبلة‭) ‬رخيصا‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬فتحه‭ ‬بعطسة‭ ‬قوية‭. ‬وأدركنا‭ ‬ان‭ ‬المسألة‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬إنَّ‮»‬‭.. ‬نجحنا‭ ‬في‭ ‬فتح‭ ‬القفل‭ ‬بسهولة،‭ ‬وفوجئنا‭ ‬بدورة‭ ‬مياه‭ ‬تشرح‭ ‬الصدر‭. ‬جدرانها‭ ‬مطلية‭ ‬بكفاءة‭ ‬واحتراف‭ ‬ومغطاة‭ ‬بالخرائط‭ ‬والقصائد‭ ‬ومعادلات‭ ‬الكيمياء‭ ‬والرياضيات‭. ‬يعني‭ ‬تحول‭ ‬الحمام‭ ‬الى‭ ‬برشام‭ ‬أثري‭ ‬تتوارثه‭ ‬الأجيال‭ ‬كما‭ ‬النقوش‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬المباني‭ ‬التاريخية‭. ‬واستنتجنا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يرمي‭ ‬إليه‭ ‬الطالبان‭ (‬يفوت‭ ‬على‭ ‬الطلاب‭ ‬الذين‭ ‬يمارسون‭ ‬الغش‭ ‬أن‭ ‬المدرسين‭ ‬الذين‭ ‬يراقبونهم‭ ‬كانوا‭ ‬طلابا‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يمارسوا‭ ‬الغش‭ ‬وهم‭ ‬على‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة،‭ ‬فإنهم‭ ‬يعرفون‭ ‬أساليب‭ ‬الغش‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يمارسها‭ ‬زملاؤهم‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭). ‬المهم،‭ ‬بدأت‭ ‬الامتحانات‭ ‬وعيوننا‭ ‬على‭ ‬الطالبين‭ ‬اللذين‭ ‬حولا‭ ‬دورة‭ ‬المياه‭ ‬الى‭ ‬موسوعة‭ ‬أكاديمية‭. ‬وبعد‭ ‬نحو‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬الامتحان‭ ‬الأول‭ ‬طلب‭ ‬أحدهما‭ ‬الإذن‭ ‬للذهاب‭ ‬الى‭ ‬الحمام،‭ ‬وبكل‭ ‬براءة‭ ‬قلنا‭ ‬له‭: ‬تفضل،‭ ‬وكما‭ ‬جرت‭ ‬العادة‭ ‬أمرنا‭ ‬أحد‭ ‬الفراشين‭ ‬بمتابعته‭ ‬حتى‭ ‬باب‭ ‬الحمام‭. ‬كنت‭ ‬أنظر‭ ‬اليه‭ ‬من‭ ‬بعيد‭. ‬أخرج‭ ‬المفتاح‭ ‬وفتح‭ ‬القفل‭ ‬ثم‭ ‬خرج‭ ‬مسرعا،‭ ‬ثم‭ ‬دخل‭ ‬وخرج‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الحمامات‭ ‬وهو‭ ‬يتصبب‭ ‬عرقا‭. ‬وعاد‭ ‬الى‭ ‬قاعة‭ ‬الامتحانات،‭ ‬ووجهه‭ ‬يلعن‭ ‬قفاه،‭ ‬وبعدها‭ ‬بدقائق‭ ‬طلب‭ ‬زميله‭ ‬الإذن‭ ‬بالذهاب‭ ‬الى‭ ‬الحمام‭ ‬فكان‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬أراد،‭ ‬فدخل‭ ‬وخرج‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬حمامات‭ ‬وهو‭ ‬مصاب‭ ‬بالذهول‭. ‬وما‭ ‬حدث‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬قبل‭ ‬بدء‭ ‬الامتحانات‭ ‬بساعات‭ ‬قليلة‭ ‬قمنا‭ ‬بإعادة‭ ‬طلاء‭ ‬الحمام‭ ‬‮«‬المثقف‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬ارتدّت‭ ‬جدرانه‭ ‬الى‭ ‬الأمية،‭ ‬أي‭ ‬أننا‭ ‬مسحنا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬ورسومات‭ ‬بطلاء‭ ‬جديد‭. ‬وبعد‭ ‬الامتحان‭ ‬حدثناهما‭ ‬بـ«الحكاية‮»‬‭. ‬فشعرا‭ ‬بالخجل‭.. ‬والغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬ان‭ ‬كليهما‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬الامتحان‭ ‬لأن‭ ‬الجهد‭ ‬الذي‭ ‬بذلاه‭ ‬في‭ ‬تسجيل‭ ‬المعلومات‭ ‬في‭ ‬المرحاض‭ ‬أسفر‭ ‬عن‭ ‬ترسب‭ ‬بعض‭ ‬المعلومات‭ ‬في‭ ‬رأسيهما‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا