تستقطب التحولات في منطقة الشرق الأوسط الكثير من اهتمامات المراكز البحثية سواء في المنطقة أو على مستوى العالم انطلاقاً من حقيقة مؤداها أنه انتهاء الحدود الفاصلة بين مستويات الأمن، وتعد تهديدات الأمن البحري والتغير المناخي وتحولات الطاقة والأمن الغذائي والمائي والأمن الصحي أمثلة على ذلك، وضمن ذلك الاهتمام نظمت مؤسسة مراقبة الأبحاث بالهند مؤتمراً في أبوظبي خلال يومي 28-29 يناير 2025 وضم عدداً كبيراً من المسؤولين والباحثين والمهتمين بتلك التحولات من بينهم كاتب هذه السطور.
ومع أهمية جلسات المؤتمر كافة لما تضمنته من مناقشات مستفيضة حول العديد من القضايا منها تأثير التحولات في الشرق الأوسط على المناطق الفرعية سواء المنطقة العربية عموماً أو منطقة الخليج العربي على نحو خاص، وتحولات الطاقة وتأثير التطور التكنولوجي سواء على أمن الدول أو العلاقات فيما بينها، وأهمية التواصل المجتمعي بين الشعوب، وكذلك التنويع الاقتصادي وغيرها من القضايا المهمة، فإنه يمكن تلخيص تلك المناقشات في ثلاثة تساؤلات أولها: لماذا يتحتم على الدول التعاون سواء بشكل ثنائي أو متعدد الأطراف؟ وثانيها: ما أولويات الدول بشأن التعاون الإقليمي في ظل التحولات المتسارعة في تلك المنطقة؟ وثالثها: من اللاعبون الأساسيون في مواجهة تلك التحديات؟
وللإجابة عن التساؤل الأول أثيرت عوامل كثيرة تحتم على كافة الدول التعاون في مجالات مختلفة ليس أقلها حالة عدم اليقين بشأن تحولات الشرق الأوسط التي تعني ببساطة أننا أمام مفهوم جديد للشرق الأوسط عما هو متعارف عليه، فالتكنولوجيا أضحت تشكل المستقبل المشترك للمنطقة والعالم وبقدر ما بها من فرص فإنها تحمل في طياتها تحديات هائلة، ومنها تهديدات البنية التحتية من خلال التوظيف السيء لتلك التكنولوجيا من جانب الجماعات دون الدول، من ناحية ثانية الارتباط الواضح بين المصالح وهو ما عكسته تهديدات الأمن البحري في باب المندب والبحر الأحمر إلى الحد الذي دفع بعض الدول لإرسال قطع بحرية لتلك المنطقة بعيداً عن تحالف حارس الازدهار وهي الهند والصين، من ناحية ثالثة هدف الحد من الصراعات التي تزداد وتيرتها ونوعيتها بما يهدد الأمن الإقليمي والأمن العالمي.
ومع أهمية تلك العوامل وغيرها ولكن كان هناك نقاش مطول حول الأولويات ،فقائمة التحديات تطول، وكان واضحاً تركيز المناقشات حول أن المنطلق الأساسي للتعاون يتطلب أولاً تحقيق الأمن والاستقرار ولذلك فإن حل القضية الفلسطينية وفق مبدأ حل الدولتين هو متطلب أساسي لتحقيق التعاون الإقليمي وإنهاء توظيف القضية الفلسطينية من جانب دول وجماعات دون الدول في الصراعات الإقليمية ومنها الأمن البحري، وثاني تلك المتطلبات حتمية احترام سيادة واستقلال الدول وقواعد القانون الدولي المنظمة للعلاقات الدولية، وثالثها: قضية التكنولوجيا وتداعياتها صحيح أنها أصبحت من مؤشرات قوة الدول وصياغة نظام عالمي مؤسس على قواعد مختلفة عن ذي قبل، ولكن لا بد من كبح جماح ذلك التطور الذي أضحى المهدد الأول للأمن القومي للدول بل وإطالة أمد الصراعات في مناطق مختلفة من العالم، بل وتأثير التكنولوجيا على اقتصادات الدول ذاتها وخاصة من النواحي الاقتصادية، حيث أثيرت توقعات باختفاء 50% من الوظائف في العالم خلال العقود المقبلة بسبب التكنولوجيا وما يمثله ذلك من تحديات لمعدل البطالة، ورابعها: تحدي الطاقة، فعلى الرغم من جهود دول العالم للتحول نحو الطاقة المتجددة فقد لوحظ أن النفط والغاز لا يزالان يمثلان النسبة الكبرى من استهلاك العديد من دول العالم، وخامسها مواجهة الجماعات دون الدول التي تتحدى سلطة الدولة الوطنية الموحدة وذلك يتطلب جهوداً دولية وإقليمية على حد سواء من حيث تصنيف تلك الجماعات أو جهود التصدي لها.
وربما تكون تلك التحديات معروفة للجميع ولكن الأهم هو تحديد الأولويات، وهو أمر مهم واستراتيجي لأنه بدون البدء بالأولويات فإن الحديث عن التعاون في الشرق الأوسط بهدف تحقيق الاستقرار سيظل يدور في حلقة مفرغة.
ومع أهمية تلك التحديات فإن الحديث الأهم هو عن اللاعبين لمواجهتها، ومع أهمية التعاون الثنائي في مجالات عديدة، فإن التعاون المتعدد الأطراف أيضاً يكتسب أهميته وخاصة في مجالات محددة مثل مبادرات الهيدروجين الأخضر والأمن الغذائي والذكاء الاصطناعي وجميعها مجالات تتيح للدول الاستفادة بشكل متكافئ وبما يناسب احتياجاتها في تلك المجالات، بما يعنيه ذلك من أن الأطراف في منطقة الشرق الأوسط والعالم هم جميعاً شركاء في ذلك التعاون بالنظر للترابط والتداخل بين النظم الفرعية في العالم وظهور منظمات تضم أطرافاً عديدة جل أهدافها التعاون الاقتصادي مثل البريكس، بالإضافة إلى الممرات الاقتصادية حيث توجد الآن 6 ممرات متنافسة في مناطق مختلفة من العالم من بينها منطقة الشرق الأوسط، وقد كان للمنظمات الدولية نصيب وافر من النقاش أيضاً والفكرة الأساسية هي أنه من أجل الحفاظ على النظام العالمي الذي ارتضته الدول لا بد من احترام قواعد ذلك النظام ومنظماته.
ولاشك أنه ضمن تلك التحولات، فإن هناك أولويات لدول الخليج العربي التي تتفاعل معها تأثراً وتأثيراً أشار إليها كاتب هذه السطور، ومن ذلك رؤية مجلس التعاون التي تم إعلانها في مارس 2024 وتضمنت العديد من القضايا التي يرى المجلس أنها تحديات لا بد من مواجهتها بنهج جماعي، فضلاً عن ضرورة إيجاد حلول للصراعات الإقليمية لأنها مصدر تهديد الأمن البحري وبدون حل تلك الصراعات فإنه لا مجال للحديث عن انتهاء تهديدات الأمن البحري، وبشأن تأسيس أطر للأمن الإقليمي أكبر نطاقاً تضم دول الخليج ودول جوارها، فإن ذلك الأمر يتطلب المزيد من إجراءات بناء الثقة واحترام سيادة وخصوصية الدول، وتحقيق الاستقرار في دول الجوار، وإبداء الشفافية من جانب تلك الدول وهي متطلبات سوف تستغرق بعض الوقت والهدف النهائي هو إفساح المجال للأمن الإقليمي كآلية للتعاون بدلاً من التدخلات العسكرية التي مازالت تمثل النمط التقليدي لمواجهة تلك التهديدات.
ومجمل القول أن منطقة الشرق الأوسط التي تشهد صراعات محتدمة ليست بحاجة إلى المزيد من المبادرات وإنما إرادة حقيقية لحل تلك الصراعات وفق المقترحات العديدة التي تم إعلانها، من ناحية ثانية فإن التعاون المتعدد الأطراف يعد آلية مهمة وخاصة في ظل انتهاء الحدود الفاصلة بين مستويات الأمن ولكن واقعية الأهداف تظل متطلباً مهماً ضمن ذلك التعاون، ومن ناحية ثالثة فإن وجود أطر قانونية دولية من شأنها ضبط التنافس الدولي في مجالات تضر بالأمن القومي للدول في مقدمتها ثورة الذكاء الاصطناعي.
توقيت ومضمون المؤتمر كان مهماً لوضع تصورات مشتركة للتهديدات والأوليات.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك