زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن الهوس بالطب
يحكي زميل لي في كلية الآداب في الجامعة أنه عندما ابلغ أباه بأنه التحق بتلك الكلية، قال له الوالد: المهم لما تتخرج تشتغل دكتور! فجعل ذلك زميلي يحس بأنه خيّب ظن والده فيه، فكان مكسور الخاطر الى ان أكمل دراسته ودخل الحياة العملية.
بصورة أو بأخرى تطرقت كثيرا إلى موضوع اعتبار دراسة الطب، أعلى مراقي المسارات الأكاديمية، وسأظل أتطرق إليه ما بقي في قلمي حبر وما بقي إصبعي قادرا على النقر على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، فما زال هناك العديد من الآباء والأمهات العرب يرغمون أولادهم وبناتهم على دراسة الطب، من منطلق «البرستيج»، أي المكانة الاجتماعية والوجاهة. يقول الواحد منهم: الولد بيدرس طب. ويحس ساعتها أنه صعد عدة درجات في سلم المجد الاجتماعي، ليس مهما عنده أن الولد كان يريد أن يدرس المحاسبة أو علم الفيزياء، بل المهم أنه رفع رأس العائلة عاليا بدخول كلية الطب، وقبل أن يصل إلى مبنى الكلية، يكون قد حصل على لقب دكتور، ولهذا صار عدد كليات الطب عندنا أكبر من عدد رياض الأطفال، وصار القبول فيها أسهل من دخول الحمام في الأسواق العامة.
بالطبع فإن دراسة الطب - بعكس مواد أخرى كثيرة - تضمن للدارس مستقبلا محددا وشبه مضمون، وإذا صار الأطباء عاجزين عن توفير أساسيات المعيشة لعائلاتهم قبل انقضاء 12 سنة على دخولهم الحياة العملية. فلأننا لا نقدِّر أن الطبيب العمومي أي الممارس العام هو عصب الخدمات الطبية، ونعرض عليه من ثم شروط خدمة لائقة، وبالتالي فمن البديهي أن يحلم كل طبيب بأن يصبح «أخصائيا»، ثم استشاريا بأسرع ما يمكن، وبهذا وحده يضمن الراتب المحترم والمكانة اللائقة، ويفوت الآباء والأمهات الذين يرغمون عيالهم على دراسة الطب أنهم يزجون بهم في ميدان شاق وصعب، فدراسة الطب تتطلب صبرا وجلدا ومثابرة ودأبا على مدى ما لا يقل عن ست سنوات، وبعدها يظل الطبيب في حالة قراءة ودراسة لا تنقطع، وما هو أهم من الجانب الأكاديمي هو أن يكون دارس الطب راغبا في دخول ميدان الطبابة، ومستعدا نفسيا لتحمل أعباء ضخمة تتطلب قوة التحمل و«طول البال» والحس الإنساني، وما لا يعرفه معظم العوام هو أن جميع المستشفيات في جميع أنحاء العالم تكلف الطبيب في مرحلة أو أخرى بأن يعمل 36 ساعة متصلة أو أكثر،.. والطبيب - ومهما علت درجته الوظيفية - يجب أن يكون مزودا على الدوام بجهاز اتصال لأنه من الوارد استدعاؤه للعمل خلال عطلته الأسبوعية أو السنوية أو العارضة، والجراح قد يعمل يوما ثماني ساعات ويوما آخر 11 ساعة (من دون أوفر تايم أي أجر إضافي)،.. ومع هذا فإن المهن الطبية لم تعد مجزية ماليا، ولم يعد الأطباء مرفهين ومدللين ومميزين كما كان حالهم قبل 25 سنة مثلا،.. وربما كان الاستثناء الوحيد هم أطباء التجميل، بعد أن صار الهوس بالجمال وبائيا، وصار حلم كل فتاة أن يكون أنفها في جمال أنف جعفر عباس الإفريقي القادر على شفط الأوكسجين وسط حريق في محطة بترول،.. وصار شفط الدهون من البطن والأرداف عملا روتينيا في العديد من المستشفيات العامة والخاصة، وصار بإمكان أي فتاة أن تدخل عيادة تجميل وهي تحمل ألبوما من الصور وتقول للدكتور: أريد شفتي نوال الزغبي وعيون نبيل شعيل وأنف بنت العجرمية ورقبة عبدالله بالخير!! وأدى الهوس بالجمال المفبرك عن طريق الجراحات إلى تطور مذهل في طب التجميل لأن الاعتبارات التجارية هي التي تحرك شركات الأدوية والبحوث الطبية،.. وقد يجري أبو الجعافر قريبا جراحة تجميل بعد أن قرأ في مجلة جيرنل أوف دينتال ريسيرش المتعلقة بأبحاث طب الأسنان أن مستشفى كنجز كولدج في لندن نجح في تزريع الأسنان باستخدام الخلايا الجذعية، بنفس طريقة تزريع الأعضاء فحال أسناني «يكسف» وأريد أن أضمن أنني قادر في شيخوختي على أكل اللحم لتكبر «كرشي» فأقوم بشفط الدهون منها وأصبح رشيقا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك