شهدت العاصمة الأمريكية واشنطن دي.سي خلال الأيام القليلة الماضية مشهدا مليئا بالتناقضات الصارخة: الكرامة المهيبة التي اشتمل عليها وداع الأمة للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في مقابل التصرفات العاصفة التي رافقت عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
لا يمكن أن يكون هناك رجلان مختلفان عن بعضها أكثر من جيمي كارتر ودونالد ترامب. وكما لو كان ذلك لإثبات هذه النقطة، نشرت إحدى الصحف عناوين رئيسية لافتة تبرز هذه التناقضات على الصفحة الأولى.
فقد جاء العنوان الأول البارز كالآتي في إحدى هذه الجرائد: «الاحتفال بـخادم الشعب»، مع عنوان فرعي بارز كالآتي: «عندما وصل كارتر إلى واشنطن، تجمع الكثيرون لتكريم تواضعه ولياقته».
أما على الجانب الآخر المقابل، فقد كان العنوان الرئيسي كالآتي: «ترامب لن يستبعد الإكراه لتوسيع خريطة الولايات المتحدة الأمريكية»، مع عنوان فرعي بارز أيضا «يتطلع إلى السيطرة على قناة بنما وجرينلاند».
في نفس الأسبوع كان الأمريكيون في حالة حداد على وفاة أحد الرؤساء السابقين الذي حظي بالثناء على خدمته للآخرين، وتواضعه، وصدقه، والتزامه بالسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي نفس الأسبوع كان الأمريكيون ينتظرون أيضًا عودة رئيس سابق آخر هدد باستخدام الإكراه «للسيطرة» على الدول الأجنبية والعفو عن مئات الأشخاص المدانين بمحاولة العنف لقلب نتيجة انتخابات 2020.
إن قصة قناة بنما الاستراتيجية تكفي وحدها في هذا الصدد كي تظهر لنا مدى الاختلافات القائمة بين الرجلين -جيمي كارتر ودونالد ترامب-والتناقضات بين نهجيهما في سياسة الحكم.
في خضم الاضطرابات التي كانت تشهدها أمريكا اللاتينية، وتزايد استياء العديد من البنميين إزاء سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على منطقة القناة، الأمر الذي لم يقسم بلادهم إلى نصفين فحسب، بل أثر سلبا أيضا على مجتمعهم بطرق أخرى، أدرك كارتر أن الوقت قد حان للتفاوض على صفقة تحترم سيادة دولة بنما.
أما من الناحية الأخرى، فإن دونالد ترامب يريد التراجع عن تلك المعاهدة، مؤكداً أن القناة «ملكنا»، ومدعياً أننا «فقدنا آلاف الأرواح» أثناء بنائها. والواقع أن التقديرات تشير إلى أنه في حين لقي أكثر من 25 ألف بنمي حتفهم أثناء حفر القناة، فإن عدد الأمريكيين الذين لقوا حتفهم كان قليلاً للغاية.
فيما يلي بعض التناقضات الإضافية بين الرجلين، جيمي كارتر ودونالد ترامب: أحدهما كان متواضعا، والآخر متفاخرًا دائمًا؛ أحدهما كرس حياته للآخرين، والآخر نرجسي؛ قال أحدهما «لن أكذب عليك أبدًا» (ولم يتمكن مدققو الحقائق من تحديد كذبة واحدة صدرت عن كارتر)، في حين حدد مدققو الحقائق 33000 كذبة قالها الآخر، أي ترامب، في أربع سنوات فقط؛ كان جيمي كارتر يعزو نجاحاته إلى الآخرين، فيما ظل ترامب يزعم بكل فخر أنه هو من يحقق كل شيء؛ ولد كارتر في بلدة جنوبية صغيرة وبعد توليه منصبه عاد إلى تلك الحياة البسيطة حتى أيامه الأخيرة، فيما ولد ترامب في عائلة ثرية في مدينة نيويورك وأحاط نفسه بحياة البذخ والإفراط والتباهي.
في حين أنه يجب ملاحظة كل هذه الاختلافات والتناقضات بين الرجلين؛ جيمي كارتر ودونالد ترامب، إلا أن هناك بعض الخصائص والسمات المشتركة التي تجمع بينهما.
إن السبب الأول والأهم هو أن كل منهما قد انتُخب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية باعتبارهما من عوامل التغيير، لأنهما، في عصرهما، فهما واستجابا لحاجة متصورة في مزاج الجمهور الانتخابي الأمريكي.
لقد انتُخِب جيمي كارتر في الوقت الذي كانت فيه الأمة الأمريكية لا تزال تعاني من الصدمات المزدوجة التي خلفتها حرب فيتنام واستقالة الرئيس ريتشارد نيكسون. وقد استغل جيمي كارتر أسلوبه الريفي البسيط ليثبت نفسه على النقيض من السياسي التقليدي. لقد كان مرتاحاً ومستقراً، وهذا ما كان الناخبون يتوقون إليه في ذلك الوقت.
من جانبه، أدرك دونالد ترامب أن العديد من الناخبين الأمريكيين كانوا مضطربين بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وكانوا يعانون من الصدمات، سواء تلك الناجمة عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أو الحرب الكارثية الفاشلة في العراق، أو تداعيات الانهيار الاقتصادي في الفترة ما بين عامي 2008 و2009.
كان الناخبون الأمريكيون أيضا حذرين من السياسيين النمطيين الذين إما لم يفهموا أو لم يهتموا بمدى غضبهم وانزعاجهم. وقد وعد جيمي كارتر بالصدق وإنهاء الاضطرابات، فيما وعد دونالد ترامب بتحريك الأمور مهما كان الثمن.
هناك عامل آخر يجمع بين هذين الرئيسين السابقين: فرغم الاختلافات الواضحة بينهما، فإنهما يعكسان جانبين مختلفين من الواقع الأمريكي. فالولايات المتحدة الأمريكية أمة قادرة على القيام بأشياء عظيمة وجيدة، مثلما أنها أيضاً أمة أثبتت قدرتها على ارتكاب الشرور.
لقد رحبت الولايات المتحدة الأمريكية بملايين اللاجئين، وقدمت الدعم الإنساني لأولئك الذين يعانون في أعقاب الأحداث الكارثية، وقادت الجهود الرامية إلى دعم وترسيخ مبادئ وقيم المساواة وحقوق الإنسان.
ولكن في الوقت نفسه، ولدت الأمة الأمريكية بخطيئة العبودية الأصلية، ولا تزال تكافح العنصرية، ولا تزال لديها نزعة كراهية الأجانب التي تظهر من وقت لآخر، كما ارتكبت أو ساعدت أو حرضت على ارتكاب جرائم حرب في بلدان بعيدة مثل فيتنام والعراق وكوبا وفلسطين.
لا يستطيع الأمريكيون أن ينكروا أيًّا من هذين الجانبين من تاريخ أمتهم و«شخصيتها»، لأن كلا الجانبين المذكورين يمثلان في واقع الأمر ما كان عليه الأمريكيون في الماضي وما هم عليه أيضا. والأمر الأكثر أهمية هو أن كلاً منهما قادر على أن يكون ما هو عليه اليوم وما قد يصبح عليه في المستقبل.
وإذا سمح الأمريكيون لأنفسهم بنسيان حقيقة مفادها أن الشر يظل دائما كامنا ويطفو على السطح في أي وقت، فإنهم يصبحون عُرضة لإغراءاته. وفي الوقت نفسه، إذا نسي الأمريكيون أنهم يمتلكون القدرة على فعل الخير والأشياء العظيمة، فإنهم بذلك ينكرون قدرتهم على تحسين الأمور ويفقدون الأمل في إمكانية إحداث التغيير.
إن حقيقة أن جنازة جيمي كارتر كانت على بعد أيام قليلة من تنصيب دونالد ترامب قد وضعت الأمريكيين أمام خيار وتحد أيضا. فأي مسار سوف يسلكونه، وأي أمريكا سوف يصبحون؟
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك