أشرت في مقالات عديدة سابقة إلى تهديدات الأمن البحري لدول الخليج العربي وكان كل منها مرتبطا بحدث محدد، ولكن التساؤل الذي لايزال يطرح ذاته أنه على الرغم من الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة تلك التهديدات، فإنها لا تزال قائمة، بل تزداد وتيرتها في الوقت الذي يزداد فيه اعتماد دول العالم أيضاً على النقل البحري في التجارة العالمية بنسبة تصل إلى 400% خلال السنوات القليلة الماضية، فما هي تحديات مواجهة تلك التهديدات، وخاصة أن الاعتماد على الممرات البحرية في التجارة العالمية هو أمر حيوي بالنسبة الى دول الخليج العربي كدول تصنف بأنها دول بحرية بالنظر الى موقعها الاستراتيجي وإطلالتها على اثنين من أهم الممرات البحرية في العالم وهما مضيق هرمز وباب المندب؟ بداية ومن خلال تحليل طبيعة تهديدات الأمن البحري التي شهدتها منطقة الخليج العربي منذ الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات وحتى المشهد الراهن في البحر الأحمر وباب المندب نجد أن الأمن البحري ليس هو القضية مثار النزاعات الإقليمية ولكن هو ورقة يتم توظيفها من جانب الأطراف التي لها تأثير وقوة بحرية لإدراكها مدى تأثير وأهمية تلك الورقة في الصراعات بل إنها نقطة تماس للأمن الإقليمي ونظيره العالمي والأمثلة على ذلك عديدة وليس أدل على ذلك من أن تهديدات الأمن البحري كانت هي السبب الأساسي لتأسيس كافة التحالفات الدولية ذات الصلة، وما أود تأكيده في تلك النقطة هو أن تهديدات الأمن البحري ليست سوى نتيجة لبلوغ الصراعات الإقليمية حدا عنيفا وخروجها عن المألوف بما يحدو بأطراف الصراع لنقل الصراعات إلى البحار التي تكون مجالاً حقيقياً لاختبار طبيعة توازن القوى بين أطراف تلك الصراعات وما يعنيه ذلك من أنه لا أمن بحري من دون تسوية الصراعات الإقليمية على نحو جذري، صحيح أن التحالفات العسكرية مهمة لجهة تحقيق الردع، ولكن تأثيرها يرتبط بالمهمة التي تأسست من أجلها في حين أن تهديدات الأمن البحري تتسم بالاستمرارية، من ناحية ثانية إذا كانت المخاطر الراهنة تنبع من تأثير الصراعات الإقليمية فإن ثمة قضية أخرى تحتاج إلى حل وهي الخلافات الحدودية البحرية، وخاصة إذا كانت تلك الحدود تحتوي على ثروات منها النفط أو تتسم بموقع استراتيجي مهم بما يعنيه ذلك من أنه لا بد من تسوية تلك الخلافات التي تحمل في طياتها مقدمات صراعات محتملة أكثر نطاقاً، ومع أهمية وجود إطار قانوني دولي توافقت عليه دول العالم وهو اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، فإن عدم التزام الدول بأحكامها يظل تحديا لتحقيق الأمن البحري. وقد اتضح أن تطبيق تلك الأحكام يرتبط بمدى ما لدى الدول من نفوذ بحري، وخاصة تلك التي لديها نزاعات حدودية بحرية مع جيرانها، ومن ناحية ثالثة تأثير التطور التكنولوجي وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي على تهديدات الأمن البحري، ولعل المعضلة الكبرى هي أن دول المنطقة تأثرت بنتائج الغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990 وظل جل تركيزها على الحدود البرية لمدة ليست بالقليلة، ولكن مع زيادة وتيرة الاهتمام بالأمن البحري خلال السنوات الماضية سواء من خلال التسلح النوعي أو المناورات البحرية المشتركة، فإن التطور المذهل في التكنولوجيا ولجوء الجماعات دون الدول إلى توظيفها لتهديد الأمن البحري هو التحدي الأكبر لسبب بسيط هو تحقيق أكبر الخسائر بأقل التكاليف، وهو ما كان مثار انتقاد بعض المسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية بالقول «2,1 مليون دولار للصاروخ الواحد، يطلق لتدمير مسيرة حوثية غير متطورة يقدر ثمنها ببضعة آلاف من الدولارات»، حيث ترى تلك الجماعات أن البحار ساحة مواتية لتحقيق أهدافها، إذ تنعدم في البحار فرص المناورة على العكس من البر ويزخر التاريخ بأمثلة عديدة منها الهجوم الانتحاري على المدمرة الأمريكية «يو إس إس كول» في عدن عام 2000 من خلال قارب مفخخ أسفر عن مقتل 17 بحاراً أمريكياً وجرح العشرات وتدمير أجزاء من المدمرة، ووصولاً إلى الوقت الراهن من خلال محاولة الحوثيين استخدام درونز تحت الماء، والتي تم إجهاضها من جانب القوات البحرية الأمريكية ضمن تحالف حارس الازدهار، ومن ناحية رابعة تحول البحار بدلاً من ساحة للتعاون بين دول العالم وخاصة أن مجال الأمن البحري تلتقي فيه مصالح الدول على نحو وثيق إلى ساحة للصراع والتنافس، فعلى الرغم من حرص العديد من دول العالم وخاصة الكبرى على إصدار استراتيجيات منفصلة للأمن البحري وهو الذي كان يتم تضمينه سابقاً ضمن استراتيجيات الأمن القومي للدول، فإن تلك الاستراتيجيات تعكس تنافساً لا تعاوناً في الأمن البحري بما يعني أن مدى إسهام تلك الدول الكبرى في تحقيق الأمن البحري يرتبط بالتنافس والصراع الدولي، بل إن مدى التزام تلك الدول بتحقيق الأمن البحري يرتبط بصراعات البحار في كافة مناطق العالم ومدى أولويتها للدول والمثال الأبرز هنا هو الصراع في بحر الصين الجنوبي الذي يعد تهديداً للولايات المتحدة مقارنة بمنطقة الشرق الأوسط عموماً وهو ما يفسر مضامين استراتيجيات الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية، ومن ناحية خامسة وأخيرة الفجوة في توازن القوى وانعكاس ذلك على تهديدات الأمن البحري، فالطرف الذي لديه تفوق في عدد القطع البحرية ونوعيتها من مصلحته نقل الصراع إلى البحار والأمثلة على ذلك عديدة.
بعض من تلك التحديات موجود منذ عقود والبعض الآخر حديث، ولكن جميعها تفاقم من تهديدات الأمن البحري الذي يرتبط على نحو وثيق بالأمن القومي لدول الخليج العربي نظراً إلى الدور المحوري للممرات البحرية في التجارة عموماً والنفط والغاز على نحو خاص.
إن دول الخليج العربي ومع أهمية تحقيق الكثير من المنجزات لتحقيق الأمن البحري سواء من خلال الأمن الذاتي أو الشراكات بحاجة إلى تفعيل الأطر الخليجية الجماعية المنوطة بالتعاون البحري وربما يتطلب الأمر إعلان استراتيجية خليجية موحدة للأمن البحري تمثل الإطار الاستراتيجي للعمل الخليجي الموحد على غرار رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي الصادرة في مارس 2024 والتي أشارت للأمن البحري من خلال فقرة مهمة وهي «الحفاظ على الأمن البحري وأمن الممرات المائية والتصدي للأنشطة التي تهدد خطوط الملاحة البحرية والتجارة الدولية وإمدادات الطاقة، ومكافحة عمليات التهريب بأنواعها ومساراتها» والإشارة بأن تحقيق الأمن البحري سيكون من خلال تعزيز القدرات الذاتية وترسيخ الشراكات الإقليمية والدولية.
ومع أهمية ذلك فإن الأولويات الثلاث في تقديري هي كيفية توظيف التكنولوجيا في الأمن البحري، والقدرة على إدارة أزمات وكوارث بحرية، والمناورات البحرية المشتركة التي تمثل رسالة ردع تجاه تهديدات الأمن البحري التي كانت -ولاتزال- التحدي الأول للخليج العربي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك