السقيفة وما أدراك ما السقيفة، مشهد من مشاهد التاريخ سوف يظل في ذاكرة الأمة سواء اتفق المؤرخون حوله أو اختلفوا، وسوف يبقى أساسًا من الأسس المكينة التي قامت عليها دولة الإسلام إذ قدمت للبشرية انموذجًا للدولة التي يكون الدين في قيمه الثابتة، وتعاليمه التي لا تتغير، ولا تتبدل، كما أنها تقبل كل جديد لا يتعارض مع المبدأ الإسلامي الثابت وهو: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه» وضرورة الإسلام وتعاليمه لحياة الإنسان مثل الهواء الذي لا يستطيع الإنسان أن يستغني عنه ولو للحظة واحدة، يقول الحق سبحانه وتعالى: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصَّعَّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون». الأنعام / 125.
الآية الجليلة في بيان واضح، وفِي وضوح بَيِّن تقول: إن الإسلام عقيدة وشريعة للإنسان كالهواء الذي لا يستطيع الإنسان أن يستغني عنه في لحظة من ليل أو نهار، ولذلك لم يُمَلِكه الله تعالى أحدًا من خلقه، بل جعله مشاعًا بين الناس.
واختلاف المسلمين حول شخصية الخليفة من بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) له ما يبرره، ولو كان هناك نص ديني قطعي الثبوت، قطعي الدلالة لحسم الخلاف من قبل أن يستفحل، ويؤدي إلى ما أدى إليه، ولكن غياب النص الديني، -كما أشار الى ذلك الأستاذ حسن العلوي في كتابه عمر والتشيع، إذ يقول الأستاذ العلوي حول هذه القضية: (..وبهذا المنظور ندخل سقيفة بني ساعدة التي لم يكن للنص الديني رأي فيها. فقد كانت من اجتهاد الصحابي سعد بن عبادة وجمع من الأنصار).
(عمر والتشيع / حسن العلوي / ص45).
إذًا، فلا فائدة ترجى من إنفاق الوقت في البحث عن سند ديني ينتصر لهذه الفرقة أو لتلك، وعلى المتجادلين أن يقروا بعظمة الإسلام الذي لم ينص على شخص بعينه، وترك اختيار الحاكم يتولى المسلمون أمره، ومحاسبته لأنه ليس له عصمة تمنع المساءلة والتغيير.
وهذه محاولة لفهم جديد قد تكشف لنا جوانب قد جهلها بعض الباحثين، ولو أمعنا النظر، وحللنا الأحداث حول ما جرى فًي ذلك اليوم التاريخي لرأينا خيرًا كثيرا قد غاب عن بعض المسلمين الذين حمَّلوا السقيفة فوق ما تحتمل، وذهبوا في فك رموزها مذاهب شتى، وأنا أرتاح إلى ما ذهب إليه الأستاذ حسن العلوي في تحليله للذي جرى في السقيفة حين وصف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بأنه «عبقري السقيفة»، ونحن لا نميل إلى هذا الوصف تعصبًا، بل إلى ما آل إليه من خيرٍ للإسلام ودولته الراشدة فيما بعد، والعمل الجليل الذي قام بها عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) حين حسم الخلاف حول شخصية من يخلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد توفي الرسول الكريم من دون اختيار خليفة للمسلمين من بعده، ولَم يكون هناك تصريح واضح حول تلك القضية التي عبَّر عنها الأستاذ حسن العلوي في كتابه «عمر والتشيع» بقوله : عن غياب النص الديني في السقيفة إذ لو وجد لما كان هناك خلاف عمن يتولى حكم المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
لقد كان اختيار أبي بكر خليفة اختيارا موفقا ومباركا، ولقد كان رسول الله في أكثر من مناسبة يثني على أبي بكر (رضي الله عنه)، ويقدمه على أصحابه، لقد نال رضوان الله عليه الكثير من الأوسمة والنياشين، ولقد استقرت في وعي الصحابة هذه المكانة لأبي بكر، لهذا لم يعترض الصحابة على ذلك، وبهذا الموقف الذي يسجل للفاروق عمر رضي الله عنه لأنه، وبلغة هذا العصر لم يترك فراغًا سياسيًا يختلف المسلمون في شخصية الخليفة وهم يواجهون ردة بعض المسلمين عن الإسلام، وإعداد الروم جيشًا لمحاربة المسلمين، فكانت الخطوة التي اتخذها عمر بن الخطاب قد حمت المسلمين، وجنبت الدولة الوليدة مشاكل لا حد ولا حصر لها، وهكذا كان عمر بن الخطاب سابق عصره في العلم والاجتهاد.
لقد وقف الِصدِّيق (رضي الله عنه) حين تمت البيعة الحرة له خطيبًا، فقال: أيها الناس من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، ثم تلى قوله تعالى: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين». (آل عمران / 144) ثم قال: أيها الناس إني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه.
لقد سبق الصِّديق (رضي الله عنه) عصره حين استهل خلافته بهذا العقد الاجتماعي الفريد قبل المفكر الفرنسي جان جاك روسو، أن موقف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان عظيمًا، وحاسمًا دفع عن المسلمين شرًا كثيرا لأنه حمى دولة الإسلام من أن يتداعى بنيانها، وتتهاوى أركانها في ظل فراغ سياسي، ولهذا كان تسلم أبي بكر الصِّديق الخلافة بمجرد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عملًا سياسيًّا حكيمًا، وهذا ما تحرص عليه الأمم الحديثة في هذا العصر إذ يحتفظون بنائب الرئيس أو ولي العهد حين تواجه الدولة غزوًا خارجيًا أو انقلابًا عسكريًا في مكان آمن، فإذا حدث للرئيس أو الحاكم مكروه أو ما شابه تسلم النائب أو ولي العهد السلطة من بعده، فلا يكون هناك فراغ سياسي!
ولقد عاصرنا وشاهدنا ما سُمِيَ بـ«الربيع العربي» وما حدث فيه من فوضى حولته من ربيع عربي إلى خريف عربي!
لذلك كان من الضروري اهتمام الصحابة الكرام بالمحافظة على دولة الإسلام ومواجهة حروب الردة والجيوش الرومانية تتهيأ للانقضاض على الدولة الوليدة، وأن أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتغسيله وتكفينه هناك من هو أولى بذلك من أهل بيته، ولو كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيًّا لحرص على حماية دولة الإسلام، وهذا ما فعله صلوات ربي وسلامه عليه حين أوصى بالمحافظة على الصلاة وإنفاذ جيش أسامة، فقال لهم وهو في سكرات الموت: الصلاة.. الصلاة، وأنفذوا جيش أسامة!
إذًا، فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه حريصًا أشد الحرص على الأمة من أن ينالها مكروه، أو ينفرط عقد دولتها، ويزول رسمها.
هذه محاولة أرجو لها التوفيق والسداد في قراءة أحداث السقيفة في ظل غياب النص الديني الذي يحُسَمْ به الخلاف الذي يحاول خصوم الإسلام أن يشوهوا به سيرة الشيخين الجليلين: أبي بكر الصدِّيق وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما)، وترك الصحابة (رضوان الله تعالى عنهم) إرثًا سياسيًّا عليهم أن يحافظوا عليه، ويطوروه بما يستجد من تجارب الأمم، وإبداعات الحضارة الإنسانية التي من طبيعتها التجدد والإبداع.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك