قدم الروائي الكويتي سعود السنعوسي في ثلاثية أسفار مدينة الطين (سفر العباءة، وسفر التبة، وسفر العنفوز) الكويت بأبعادها التاريخية والسياسية والاجتماعية، على لسان «صادق بوحدب» كاتب الأسفار وراوي الحكايات صاحب الصوت الساخر، بلغة مدهشة عز نظيرها.
أعاد الكاتب في هذا العمل الملحمي تدوين تاريخ البلاد الحديث والمعاصر، مستعيناً بمرجعيات منوعة، لكشف صور من الماضي المعاش في كنف البحر والبر. ابتداءً من صناعة السفن، فرحلة الغوص على اللؤلؤ وما يصاحبها من ضنك، إلى البر واتساعه وارتباط الخيل ببيئته، وحكاية التعليم منذ الكتاتيب حتى افتتاح المدارس النظامية، ودور بعثة الإرسالية التبشيرية ومشفى «العنكريز»، واكتشاف النفط، وصولاً إلى التوترات السياسية قبيل الغزو العراقي.
وصاغ هذه الحكايات المتشعبة، ملحقاً بها بعض أهم مفردات الموروث الفني الشعبي، مثل ارتباط الغاصة بفن السنقني، وفن العرضة في الاحتفالات الحربية، والزفان والتمايل طرباً على أنغام العود والمرواس في ليالي السمر، مثرياً إياها بالقصائد والزهيريات.
وتتجلى شخصيات أسفار مدينة الطين في عوالم متعددة، وبأحداث ومصائر مختلفة؛ في لعبة سردية تفنن فيها الكاتب في التلاعب بزمنها وبشخصياتها وبالتاريخ. واستند في عمله الهائل إلى الواقع والأسطورة، والشخصي والعام، ومزج باقتدار الفصحى بالعامية، وكشف فيها الأبعاد النفسية من خلال الحوارات المبهرة. وأثرى خطابه ونوع في إيقاعه بالتقارير التي تحيل إلى أزمنة سابقة كتلك المنضدة بالآلة الكاتبة، واستعان برسومات معبرة لمشاعل الفيصل. ونثر إشارات متعددة تحيل إلى روايات الكاتب السابقة.
يتناول »سِفر العباءة« أسطورة »بودرياه« الذي غدر بالغاصة وترك لهم العباءة دليلاً على عودته لخراب الديرة كما تنبأت الصاجات، مستعيناً بها في سرد مطالبات الإخوان وأحداث غزوة الجهراء وحصار القصر الأحمر.
وتمحور «سِفر التبة» حول الصراع المرير الذي عاناه سليمان بن سهيل بسبب الفتن التي أشعلت جذوتها الصاجة أم حدب، بعد أن نسجت أحابيلها في بيت شايعة على مدار سِفرين، وغوصه في تبة عميقة ليسافر إلى ديرة لا يعرفه فيها أحد، بعد أن كان ولداً غرير اً يطارد أحلامه في البحر.
وتنتهي حكاية سليمان في «سِفر العنفوز» بعد تغير حاله مثل حال سمكة العنفوز في بيئة غير بيئته. ويتشابك مصيره مع مصائر أبطال الثلاثية، ومنهم: خليفوه البرنثى، وسعدون، وشيخ البحارة سند بن هولين، وعزوز الهذار، وغايب بودرياه، وصادق عبدالرزاق بوحدب في قالب عجائبي، ثم يعود إلى بيته القديم مثل «المولاف»، ليترك لنا الكاتب نهاية بباب مفتوح على الأسئلة والاحتمالات.
وأطر المؤلف هذا السيل من حكايات «مدينة الطين» بمعتقداتها وخزعبلاتها وحقائقها وفنونها وتاريخها، مظهراً عالماً مفارقاً ومختلفاً عن العالم الذي تتحكم فيه ثنائية الملا والصاجه. وهو الجيل المثقف المتمثل بجيل البعثة المصرية في خمسينيات القرن العشرين من الأدباء والكتاب والمثقفين. ومن هذا الجيل تم انتخاب صادق بوحدب ليقوم بدور الراوي.
وظف الكاتب التاريخ بحمولته واحتمالاته، واستعان بمذكرات أول طبيبة أمريكية لتقطيع الخطاب. وقدم لمحات حول حياة الناس المتذبذبة بين الانصياع للمطاوعة، وغلو الإخوان، وكرامة المراقد، والإيمان بالصاجات وقدراتهن الخارقة، واستبداد رقيب المطبوعات، مع التطرق إلى قضايا حقوق المرأة مثل حق التعليم، وحق العمل.
وأضاف إلى المتاهة التي رسمها، وعقد بها خطابه الروائي، تقديماً وتأخيراً، إشارات وعلامات صغيرة لكنها دالة، وتخلق تشويقاً، وتعزز من حضور العجائبي الغريب مثل: شراب نقيع سرطانات البحر، والكحل المغموس بذيل الثعبان، ويوم السديس.
ويختتم السنعوسي -الحائز على جائزة «البوكر» عن «ساق البامبو» 2013 م-بسرد فنتازي ربط فيه الأحداث جميعها، واستكمل الصورة النهائية لمصير الشخصيات، في خلال سبعين عاماً وهو زمن الرواية. وتوجه بلقاء صحافي مع الأديب صادق بوحدب أجرته القاصة الشابة ليلى العثمان!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك