يقال إنه كثيرًا لا تُعرف قيمة الناس إلا بعد وفاتهم؛ ولا تُستثنى الولايات المتحدة من هذه القاعدة. الإعلاميون والساسة فجأة أعطوا القيمة الكبرى والتي يستحقها الرئيس 39 جيمي كارتر (1977 -1982) نظرًا لدوره في إقامة السلام المصري -الإسرائيلي (1979)؛ ودوره في الأعمال المدنية والإنسانية التي منحته جائزة نوبل للسلام.
حصل كارتر على كثير من الاهتمام ما بين وفاته في مدينة «بلين» الصغيرة في ولاية جورجيا وحتى إقامة الشعائر التاريخية في واشنطن العاصمة ومن بعدها دفنه حيث جاء. القيمة التاريخية لكارتر في السياسة والعمل المدني قلل منها دائمًا أنه خدم في البيت الأبيض فترة رئاسية واحدة انقلبت فيها السياسة الأمريكية من الحزب الديمقراطي الذي حمله إلى مقعد الرئاسة بعد عهد جمهوري شهد فضيحة ووترجيت، ونهاية حرب فيتنام بفضيحة استراتيجية عظمى. وقتها كانت أمريكا تمر بفترة اغتسال وتطهير أخلاقي وسياسي سادت فيها فجاجة ريتشارد نيكسون؛ وصخب التغيير الجيلي للرافضين التجنيد في الجيش، والمثيرين للضجيج في الجامعات، وشعارات الحب في الحدائق.
كارتر جاء حاملًا معه الدعوة إلى حقوق الإنسان، ونظافة السياسة من الفساد والكذب، وفي طريقه فاجأه الرئيس السادات بالدعوة إلى السلام في الشرق الأوسط، فجاءته فرصة سياسية انتهزها بالسعي نحو عقد مؤتمر دولي للسلام العربي الإسرائيلي. المصري فاجأه مرة أخرى عندما قرر الذهاب إلى القدس لكي يحقق مفاجأة للرأي العام الإسرائيلي لم يحدث لها مثيل منذ مفاجأة 6 أكتوبر 1973 التي مهد فيها السلاح للدبلوماسية والسياسة. كانت القاهرة سابقة على واشنطن في الحالتين الحرب والسلام؛ وكان كارتر مهيأً أخلاقيًا وسياسيًا لتحقيق أول معاهدة للسلام غيرت من الطبيعة «الوجودية» للصراع لكي يصبح استراتيجيًا وسياسيًا بات أكثر ميادينه فكرًا وإبداعًا عندما انعقد مؤتمر كامب ديفيد تحت رعاية الرئيس الأمريكي.
كنت قد وصلت إلى الولايات المتحدة في نهاية سبتمبر 1977؛ وفي غمرة السعي نحو الاستقرار جرت الأحداث المثيرة الواحدة بعد الأخرى، مفاجئة لأحد المصريين الذين عاشوا الحرب وفجأة كان الحديث عن السلام مثيرًا للأمل، ولاسعًا من كم الانتقادات والهجوم الذي أتى من الرفاق العرب في الجامعة. لدارس في العلوم السياسية فإن شخصية كارتر في المحيط الأمريكي، والسادات في المحيط المصري والعربي باتت قريبة من مركز السياسة الدولية، وفي قلب مستقبل العالم والشرق الأوسط.
وحينما هلت بشائر الانتخابات الرئاسية الأمريكية التالية، ونجح كارتر في تخطي عقبة الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي فائزًا على «إدوارد كينيدي»، ظننت أن طريقه إلى ولاية ثانية ممهد بدرجة عالية من اليقين. ولما كنت قد بدأت التدريس في جامعة شمال إلينوي بينما انتهيت من أطروحتي للدكتوراه فقد جربت إجراء تصويت لتلاميذي البالغ عددهم 45 طالبًا وطالبة. المفاجأة الكبيرة كانت أنه كان هناك شبه إجماع على المرشح الجمهوري رونالد ريجان، الممثل والمحافظ وكبير السن. التصويت دفعني إلى كثير من التفكير، كان العالم قد تغير كثيرًا وفي قلبه الشرق الأوسط. كان الاتحاد السوفيتي قد غزا أفغانستان، ونشبت الثورة الإيرانية. والأخطر أنه تم اغتيال الرئيس السادات، واصطف التلاميذ لتعزيتي في وفاته باعتباري أقرب المصريين لهم.
كان العالم قد دخل ما بات معروفًا وقتها بالحرب الباردة الثانية؛ أما الشرق الأوسط فبعد أول معاهدة للسلام يسير في مساره الدائم حينما نشبت الحرب اللبنانية في صيف 1982. خرج كارتر من البيت الأبيض بينما ينتظر ركوب الرهائن الأمريكيين الذين اختطفهم الحرس الثوري الإيراني إلى الطائرة التي احتجزها الخميني حتى قام ريجان بحلف اليمين.
في الذهن ظل الرئيسان كارتر والسادات وقضية السلام في الشرق الأوسط ملحة على مدى العقود التالية؛ وعندما جرت حرب الخليج لتحرير الكويت أقدم الرئيس جورج بوش الأب على عقد مؤتمر مدريد للسلام، وجاءت نسائم إمكانية التعايش في المنطقة. وكما هي العادة فإن التعايش والسلام تقف في وجههما عمليات الاغتيال والعنف من قوى غاشمة؛ وهذه المرة جرى الاغتيال لإسحاق رابين؛ لأنه وافق على اتفاق أوسلو، وكان هو الذي قال إنه عندما أتى اليهود إلى هذه الأرض، يعني فلسطين، فإنها لم تكن فارغة.
جاءت وزارة بنيامين نتنياهو الأولى ومعها الاستيطان والمذابح، على الجانبين العربي والإسرائيلي في ذلك الوقت كان هناك من يرون أنه لا ينبغي لفرصة السلام أن تضيع؛ فجرى تكوين التحالف الدولي للسلام العربي الإسرائيلي. كانت واحدة من أفكار التحالف عقد مؤتمرات في عواصم الدول التي شاركت في الحروب، وآن أوان المشاركة في السلام؛ وكان حضور الرئيس كارتر مهمًا لهذه المناسبة. وبتفويض من الأطراف سافرت أنا ود. رياض المالكي الذي كان في ذلك الوقت قائدًا لإحدى الجمعيات الأهلية الفلسطينية؛ وفيما بعد صار وزيرًا للخارجية الفلسطينية فترة طويلة. ذهبنا إلى مركز كارتر في أتلانتا وجاء إلينا مبتسمًا وكأنما تذكر أن الشعلة التي أشعلها قبل عقدين تقريبًا لا تزال باقية، رغم كل الأخبار السيئة القادمة من الشرق الأوسط. كان طلبنا هو أن يحضر ويلقي كلمة في المؤتمر المحدد.
قال لنا الرئيس كارتر إنه يود الحضور كثيرًا، ولكنه لا يستطيع ذلك لأسباب سياسية بحتة؛ لأنه لا يجوز لرئيس سابق أن يظهر إلى أضواء سياسية في عهد رئيس لاحق، هو بيل كلينتون؛ ومع ذلك فإنه على استعداد لتسجيل كلمة في فيديو يعرض في المؤتمر. للأسف لم يقدر للمؤتمر الانعقاد بعد ذلك، ولا أذكر ما الذي جرى لتسجيل الكلمة. ولكن هذه المرة للقاء لم تكن الأخيرة، كان هناك لقاء آخر، وهذه المرة في القاهرة وفي بيت ضيافة رسمية التقيت به مع الدكتور سعد الدين إبراهيم وآخرين يغيبون عن الذاكرة الآن، وكان الحديث عن جهوده الإنسانية الخاصة ببيوت الفقراء التي كان نشطًا بها في الهند وجنوب إفريقيا وكثرة من العالم النامي استحق عليها جائزة نوبل للسلام؛ رغم أنه كان يفضل الحصول عليها نتيجة جهوده في الشرق الأوسط. الآن فإن جيمي كارتر يرحل عن العالم بعد أن بلغ سن المائة باعتباره الأطول عمرًا من كل الرؤساء الأمريكيين؛ وبعد تجربة أذهلتني وهو قراره قبل عامين بالتوقف عن كل الأدوية، بما فيها السرطان، لكي يقضي وقته مع أولاده وأحفاده وأحفاد الأحفاد أيضًا. الرجل لم يكن سياسيًا فقط، وأول وربما آخر من جاء رئيسًا من جورجيا، وإنما أيضًا كان مزارعًا ونجارًا مفعمًا بالإنسانية والرغبة في أن يعيش الأمريكيون والعالم في زمن أفضل.
من يعيش الآن في الشرق الأوسط يفتقد جيمي كارتر وأنور السادات، القيادات التي قدمت نوعًا جديدًا من البطولة غير المعتادة في المنطقة الغارقة في صدامات وجودية لا تعرف الرفق والنظرة إلى مستقبل أفضل، لا تقتل فيه النساء والأطفال، ولا تهدم فيه المدن والحضارة.
{ كاتب ومفكر مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك