جيمي كارتر، الرئيس الأمريكي الأسبق الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي، صار يلقب بعبارة ذات دلالة. فهو يوصف في بلاده بـ«أفضل رئيس سابق» لا أفضل رئيس!.. فسجل كارتر بالرئاسة لم يختلف عن غيره من الرؤساء الأمريكيين، فهو حافظ على الطابع الإمبراطوري للسياسة الخارجية ورفع الميزانية العسكرية ودعّم نظم حكم قمعية ما دامت تحقق مصالح بلاده.
ولعل القرار الأسوأ الذي اتخذه الرجل كان هو تعيين زبجنيو بريجينسكي مستشارا للأمن القومي فالأخير، الذي أتى من أصول بولندية، كانت له أجندة شخصية جوهرها الانتقام من الاتحاد السوفيتي والقضاء عليه وعلى أي نظام حليف له، فنصح كارتر باتخاذ قرارات كارثية، فأنفق كارتر مثلا أكثر من 3 مليارات دولار لدعم «المجاهدين» في أفغانستان لذلك الهدف.
وافتخر بريجينسكي لاحقا بالقرار قائلا إن أفغانستان كانت الفخ الأمريكي الذي عجّل بالقضاء على الاتحاد السوفيتي وكارتر، الذي كان يؤمن شخصيا بحقوق الإنسان، دعّم نظم حكم قمعية مثلما فعل في الفلبين وإندونيسيا وإيران والسلفادور.
واضطر اضطرارا لإقالة أندرو يانج، ممثل أمريكا لدى الأمم المتحدة حين تبين أنه التقى مسؤول منظمة التحرير الفلسطينية ورغم أن كارتر كان وراء اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، إلا أن لوبي إسرائيل بواشنطن، بل وإسرائيل نفسها لم يغفرا له ذلك أبدا، واعتبروه مناهضا لمصالح إسرائيل. وقد سمعت كارتر بنفسي يقول بعدها بعقود إن لوبي إسرائيل كان أهم القوى المسؤولة عن هزيمته أمام رونالد ريجان في انتخابات 1980!.
لكن ما إن تحرر كارتر من قيود العمل السياسي حتى عاد لقناعاته الشخصية وصار يعبر عنها بوضوح. وقد لا يعرف كثيرون أن كارتر كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين الذين عبّروا صراحة منذ ترشحهم للرئاسة عن تدينهم الشديد، حتى إنه كان أول رئيس يعود معه التيار الأصولي المسيحي للسياسة، بعد أن توارى عن الأنظار لنصف قرن، فقد منح التيار أصواته لكارتر بشكل كاسح في انتخابات 1976. لكن ما إن كشفت سياسات كارتر الاجتماعية عن طابعها الليبرالي حتى تخلوا عنه، وصاروا ذلك التيار الأصولي من وقتها من أهم قطاعات الحزب الجمهوري.
إن تدين كارتر كان الأساس الذي نبع منه اختياره لأن يصبح جزءا من الحركة العالمية المناهضة للظلم والعدوان، واستخدم ثقله المعنوي والسياسي في ذلك الاتجاه. فدعّم حقوق الإنسان وراقب الانتخابات دوليا وصرح بما لا يحبه سياسيو بلاده بما في ذلك تقييمه الإيجابي لانتخابات هوجو شافيز 2006.
لكن لعل الأكثر أهمية هو أن كارتر، الذي تجاهل الفلسطينيين حين كان بالرئاسة، هو الذي استخدم منذ عقدين على الأقل مفردات كانت صادمة وقتها للداخل الأمريكي.
فهو لم يتورع عن استخدام «الفصل العنصري» لوصف ما يجري بالأراضي الفلسطينية المحتلة، واستخدم كلمة «أبارتيد» في عنوان كتابه الصادر عام 2006. وهو العنوان الذي استخدم فيه أيضا اسم «فلسطين»، لا «الفلسطينيين» كما يفضل السياسيون الأمريكيون. وكل ذلك أثار انتقادات حادة ضده داخل أمريكا وصلت إلى حد اتهامه بالعداء للسامية!
وعند تأمل تاريخ كارتر، تقتضي الأمانة الإشارة إلى أمرين؛ أولهما أن تجاهله للفلسطينيين حين كان رئيسا مصدره أن أي رئيس أمريكي يحتاج إلى غطاء سياسي عند اتخاذ قرارات جدلية.
وفى فترة حكمه، لم يكن هناك لوبي قوي في الجهة المقابلة يوازن لوبي إسرائيل ولو قليلا ولا حتى حركة اجتماعية كما الحال الآن.
وثانيهما أن مواقف كارتر بعد الرئاسة، رغم نزاهة أغلبها، ينبغي رؤيتها كمواقف «أمريكي» أتى من داخل المطبخ السياسي وتأثر به لا محالة، لا مواقف ناشط سياسي تقدمي!.
{ باحثة متخصصة في الشؤون الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك