العدد : ١٧٠٨٩ - الأحد ٠٥ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٥ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٩ - الأحد ٠٥ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٥ رجب ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

تحديات بناء المجتمع الجديد في سوريا

بقلم: د. عصام عبدالفتاح

الجمعة ٠٣ يناير ٢٠٢٥ - 02:00

حينما‭ ‬نشاهد‭ ‬رجال‭ ‬الدفاع‭ ‬المدني‭ ‬السوري‭ (‬الخوذ‭ ‬البيضاء‭) ‬وهم‭ ‬يخرجون‭ ‬عددا‭ ‬هائلا‭ ‬من‭ ‬الجثامين‭ ‬التي‭ ‬ألقى‭ ‬بها‭ ‬الأسد‭ ‬في‭ ‬مقابر‭ ‬جماعية‭ ‬في‭ ‬أطراف‭ ‬دمشق‭ ‬وريفها‭ ‬تداهمنا‭ ‬صدمة‭ ‬مروّعة‭ ‬وغثيان‭ ‬شديد‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬المأساة‭ ‬السورية‭. ‬إذ‭ ‬يُقدر‭ ‬عدد‭ ‬الجثامين‭ ‬بحوالي‭ ‬مائتي‭ ‬ألف،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬البحث‭ ‬جاريا‭ ‬عن‭ ‬مفقودين‭ ‬آخرين‭ ‬غير‭ ‬معروفة‭ ‬أعدادهم‭ ‬ولا‭ ‬أماكنهم‭.‬

روى‭ ‬شهود‭ ‬الدفن،‭ ‬ومعظمهم‭ ‬من‭ ‬سائقي‭ ‬الجرافات،‭ ‬أن‭ ‬المخابرات‭ ‬السورية‭ ‬كلفتهم‭ ‬قسرا‭ ‬بنقل‭ ‬الجثامين‭ ‬من‭ ‬أقبية‭ ‬ومستشفيات‭ ‬عسكرية‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المقابر‭ ‬المسورة‭ ‬الخافية‭ ‬عن‭ ‬الأعين‭ ‬في‭ ‬أطراف‭ ‬دمشق‭. ‬

كانت‭ ‬عمليات‭ ‬الدفن‭ ‬تجرى‭ ‬أسبوعيا‭ ‬تحت‭ ‬جنح‭ ‬الظلام‭. ‬أسئلة‭ ‬كثيرة‭ ‬تتوارد‭ ‬على‭ ‬الذهن‭ ‬عندما‭ ‬نتأمل‭ ‬مجازر‭ ‬الأسد‭ ‬لشعبه‭. ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لإنسان‭ ‬تلقى‭ ‬تعليما‭ ‬عاليا‭ ‬ودرس‭ ‬الطب،‭ ‬وتخصص‭ ‬في‭ ‬أمراض‭ ‬العيون،‭ ‬وتابع‭ ‬دراساته‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬أن‭ ‬تنخلع‭ ‬عنه‭ ‬إنسانيته‭ ‬ليستحيل‭ ‬إلى‭ ‬وحش‭ ‬دموي‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬البشاعة؟‭ ‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬مقدرا‭ ‬لبشار‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رئيسا‭ ‬لسوريا،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬المرشح‭ ‬لخلافة‭ ‬أبيه‭ ‬في‭ ‬الرئاسة‭ ‬شقيقه‭ ‬باسل‭ ‬الذي‭ ‬لقي‭ ‬مصرعه‭ ‬في‭ ‬حادث‭ ‬سيارة‭ ‬عام‭ ‬1994‭ ‬فاضطر‭ ‬بشار‭ ‬أن‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬دراساته‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬سوريا‭. ‬وعندما‭ ‬توفي‭ ‬والده‭ ‬تولى‭ ‬الرئاسة‭ ‬في‭ ‬استفتاء‭ ‬عام‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬اعتراض‭ ‬على‭ ‬شخصه،‭ ‬وكان‭ ‬عمره‭ ‬وقتئذ‭ ‬34‭ ‬عاما،‭ ‬وقد‭ ‬أجرى‭ ‬خصيصا‭ ‬له‭ ‬تعديل‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬الدستور‭ ‬الذي‭ ‬يشترط‭ ‬ألا‭ ‬يقل‭ ‬سن‭ ‬المترشح‭ ‬للرئاسة‭ ‬عن‭ ‬40‭ ‬عاما‭ ‬ليهبط‭ ‬إلى‭ ‬34‭ ‬عاما‭.‬

صار‭ ‬بشار‭ ‬رئيسا‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬اعتراض‭ ‬على‭ ‬شخصه‭. ‬إذ‭ ‬تعلقت‭ ‬آمال‭ ‬السوريين‭ ‬عليه‭ ‬وتوسموا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطبيب‭ ‬المتعلم‭ ‬المصلح‭ ‬الذي‭ ‬سيخرج‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬القمع‭ ‬والقهر‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬والرخاء‭ ‬الاقتصادي‭. ‬

حظي‭ ‬بشار‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حكمه‭ ‬بإعجاب‭ ‬ومحبة‭ ‬شعبه،‭ ‬خاصة‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬السوريون‭ ‬يشاهدونه‭ ‬وهو‭ ‬يتناول‭ ‬الغداء‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬في‭ ‬مطاعم‭ ‬دمشق‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬ألغى‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬فرضها‭ ‬أبوه‭ ‬على‭ ‬الحريات‭ ‬العامة‭.‬

بيد‭ ‬أن‭ ‬الرياح‭ ‬لا‭ ‬تأتى‭ ‬دائما‭ ‬بما‭ ‬تشتهى‭ ‬السفن،‭ ‬إذ‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تبددت‭ ‬صورة‭ ‬الرئيس‭ ‬الودود‭ ‬المصلح‭. ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬2011‭ ‬خرجت‭ ‬مظاهرات‭ ‬سلمية‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬فيما‭ ‬يعرف‭ ‬بربيع‭ ‬دمشق‭ ‬لتطالب‭ ‬الرئيس‭ ‬بإجراء‭ ‬إصلاحات‭ ‬اقتصادية‭ ‬وسياسية‭. ‬فرد‭ ‬عليها‭ ‬النظام‭ ‬بإجراءات‭ ‬قمعية‭ ‬رهيبة،‭ ‬وألقى‭ ‬بأعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬والكتاب‭ ‬والشباب‭ ‬في‭ ‬السجون،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬عمت‭ ‬أرجاء‭ ‬سوريا،‭ ‬وأودت‭ ‬بحياة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬500‭ ‬ألف‭ ‬سوري‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬نزوح‭ ‬نصف‭ ‬الشعب‭ ‬السوري‭ ‬إلى‭ ‬العراء‭ ‬وخارج‭ ‬البلاد‭. ‬وفي‭ ‬21‭ ‬أغسطس‭ ‬عام‭ ‬2013‭ ‬نفذ‭ ‬الجيش‭ ‬السوري‭ ‬شرق‭ ‬وجنوب‭ ‬دمشق‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الغوطة‭ ‬قصفا‭ ‬مزدوجا‭ ‬بغاز‭ ‬السارين،‭ ‬وهو‭ ‬سلاح‭ ‬كيميائي‭ ‬فتاك‭ ‬أسفر‭ ‬عن‭ ‬مقتل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬2000‭ ‬شخص‭ ‬وأصيب‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬المدنيين،‭ ‬ويعد‭ ‬هذا‭ ‬الهجوم‭ ‬الأكثر‭ ‬دموية‭ ‬منذ‭ ‬مجزرة‭ ‬حلبجة‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العراقية‭ ‬الإيرانية‭ ‬عام‭ ‬1988‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬السوري‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعرض‭ ‬لكل‭ ‬هذه‭ ‬الآلام‭ ‬الرهيبة‭ ‬سيمر‭ ‬بفترة‭ ‬ليست‭ ‬بقصيرة‭ ‬حتى‭ ‬تلتئم‭ ‬جروحه‭ ‬النفسية‭ ‬العميقة‭ ‬تحت‭ ‬حكم‭ ‬الطاغية‭ ‬الهارب،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬السؤال‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬مطروحا‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬البحث‭ ‬هو‭: ‬ما‭ ‬السيناريوهات‭ ‬المحتملة‭ ‬لمآلات‭ ‬الوضع‭ ‬الحالي؟‭.‬

إن‭ ‬الضربة‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬منطقتين‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬إحداهما‭ ‬هيئة‭ ‬تحرير‭ ‬الشام‭ ‬والجيش‭ ‬الوطني‭ ‬السوري‭ ‬وهذا‭ ‬الأخير‭ ‬مكون‭ ‬من‭ ‬جماعة‭ ‬متمردة‭ ‬مدعومة‭ ‬من‭ ‬تركيا‭ ‬وترغب‭ ‬في‭ ‬تقليص‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬يسيطر‭ ‬عليها‭ ‬أكراد‭ ‬قوات‭ ‬سوريا‭ ‬الديمقراطية‭. ‬وفى‭ ‬جنوب‭ ‬البلاد‭ ‬يوجد‭ ‬الجيش‭ ‬السوري‭ ‬الحر‭ ‬المكون‭ ‬من‭ ‬الجيش‭ ‬السوري‭ ‬السابق‭ ‬ويعيش‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬الصحراء،‭ ‬وسبق‭ ‬أن‭ ‬تلقى‭ ‬دعما‭ ‬أمريكيا‭ ‬مكثفا‭ ‬وقواعد‭ ‬خلفية‭ ‬في‭ ‬الأردن‭. ‬

وقد‭ ‬ظهرت‭ ‬مؤخرا‭ ‬معها‭ ‬قوة‭ ‬رابعة‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬‮«‬غرفة‭ ‬عمليات‭ ‬الجنوب‮»‬‭ ‬وتتألف‭ ‬من‭ ‬مجموعات‭ ‬نشطة‭ ‬خمدت‭ ‬عقب‭ ‬سيطرة‭ ‬الحكومة‭ ‬المركزية‭ ‬عام‭ ‬2018،‭ ‬لكنها‭ ‬ظهرت‭ ‬فجأة‭ ‬بعدما‭ ‬تمكن‭ ‬أحمد‭ ‬الشرع‭ ‬من‭ ‬إسقاط‭ ‬حكم‭ ‬الأسد‭ ‬ودخوله‭ ‬دمشق‭ ‬بقواته‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يلوح‭ ‬سيناريوهان‭. ‬إما‭ ‬أن‭ ‬تنصهر‭ ‬القوى‭ ‬الأربع‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬قوية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بناء‭ ‬الوطن‭ ‬وتماسكه‭ ‬وإما‭ ‬أن‭ ‬تتنازع‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬تنقسم‭ ‬على‭ ‬أثرها‭ ‬البلاد‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬نفوذ‭ ‬لدول‭ ‬مجاورة‭ ‬والمهم‭ ‬هو‭ ‬نجاح‭ ‬الإدارة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬مجتمع‭ ‬جديد‭ ‬يعيد‭ ‬للشعب‭ ‬السوري‭ ‬أمله‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬أفضل‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬مآسي‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الحكم‭ ‬الديكتاتوري‭ ‬لعائلة‭ ‬الأسد‭.‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬فلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬

بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬–‭ ‬جامعة‭ ‬حلوان‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا