حينما نشاهد رجال الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) وهم يخرجون عددا هائلا من الجثامين التي ألقى بها الأسد في مقابر جماعية في أطراف دمشق وريفها تداهمنا صدمة مروّعة وغثيان شديد من هول المأساة السورية. إذ يُقدر عدد الجثامين بحوالي مائتي ألف، ولا يزال البحث جاريا عن مفقودين آخرين غير معروفة أعدادهم ولا أماكنهم.
روى شهود الدفن، ومعظمهم من سائقي الجرافات، أن المخابرات السورية كلفتهم قسرا بنقل الجثامين من أقبية ومستشفيات عسكرية إلى هذه المقابر المسورة الخافية عن الأعين في أطراف دمشق.
كانت عمليات الدفن تجرى أسبوعيا تحت جنح الظلام. أسئلة كثيرة تتوارد على الذهن عندما نتأمل مجازر الأسد لشعبه. كيف يمكن لإنسان تلقى تعليما عاليا ودرس الطب، وتخصص في أمراض العيون، وتابع دراساته العليا في لندن أن تنخلع عنه إنسانيته ليستحيل إلى وحش دموي بمثل هذه البشاعة؟
لم يكن مقدرا لبشار أن يكون رئيسا لسوريا، إذ كان المرشح لخلافة أبيه في الرئاسة شقيقه باسل الذي لقي مصرعه في حادث سيارة عام 1994 فاضطر بشار أن يتخلى عن دراساته ويعود إلى سوريا. وعندما توفي والده تولى الرئاسة في استفتاء عام دون أدنى اعتراض على شخصه، وكان عمره وقتئذ 34 عاما، وقد أجرى خصيصا له تعديل في نص الدستور الذي يشترط ألا يقل سن المترشح للرئاسة عن 40 عاما ليهبط إلى 34 عاما.
صار بشار رئيسا دون أي اعتراض على شخصه. إذ تعلقت آمال السوريين عليه وتوسموا في هذا الطبيب المتعلم المصلح الذي سيخرج البلاد من عصر القمع والقهر إلى عصر جديد من الحرية والرخاء الاقتصادي.
حظي بشار في بداية حكمه بإعجاب ومحبة شعبه، خاصة عندما كان السوريون يشاهدونه وهو يتناول الغداء مع زوجته في مطاعم دمشق. كما أنه ألغى كثيرا من القيود التي فرضها أبوه على الحريات العامة.
بيد أن الرياح لا تأتى دائما بما تشتهى السفن، إذ سرعان ما تبددت صورة الرئيس الودود المصلح. ففي عام 2011 خرجت مظاهرات سلمية في الشوارع فيما يعرف بربيع دمشق لتطالب الرئيس بإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية. فرد عليها النظام بإجراءات قمعية رهيبة، وألقى بأعداد كبيرة من المفكرين والكتاب والشباب في السجون، وهو ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية عمت أرجاء سوريا، وأودت بحياة أكثر من 500 ألف سوري.
كما نتج عنها نزوح نصف الشعب السوري إلى العراء وخارج البلاد. وفي 21 أغسطس عام 2013 نفذ الجيش السوري شرق وجنوب دمشق في منطقة الغوطة قصفا مزدوجا بغاز السارين، وهو سلاح كيميائي فتاك أسفر عن مقتل أكثر من 2000 شخص وأصيب آلاف من المدنيين، ويعد هذا الهجوم الأكثر دموية منذ مجزرة حلبجة خلال الحرب العراقية الإيرانية عام 1988.
لا شك أن الشعب السوري بعد أن تعرض لكل هذه الآلام الرهيبة سيمر بفترة ليست بقصيرة حتى تلتئم جروحه النفسية العميقة تحت حكم الطاغية الهارب، بيد أن السؤال الذى لا يزال مطروحا الآن على طاولة البحث هو: ما السيناريوهات المحتملة لمآلات الوضع الحالي؟.
إن الضربة التي تلقاها نظام الأسد جاءت من منطقتين تسيطر على إحداهما هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري وهذا الأخير مكون من جماعة متمردة مدعومة من تركيا وترغب في تقليص الأراضي التي يسيطر عليها أكراد قوات سوريا الديمقراطية. وفى جنوب البلاد يوجد الجيش السوري الحر المكون من الجيش السوري السابق ويعيش في مساحة صغيرة من الصحراء، وسبق أن تلقى دعما أمريكيا مكثفا وقواعد خلفية في الأردن.
وقد ظهرت مؤخرا معها قوة رابعة تتمثل في «غرفة عمليات الجنوب» وتتألف من مجموعات نشطة خمدت عقب سيطرة الحكومة المركزية عام 2018، لكنها ظهرت فجأة بعدما تمكن أحمد الشرع من إسقاط حكم الأسد ودخوله دمشق بقواته. ومن ثم يلوح سيناريوهان. إما أن تنصهر القوى الأربع في وحدة قوية من أجل بناء الوطن وتماسكه وإما أن تتنازع فيما بينها في حرب أهلية تنقسم على أثرها البلاد إلى مناطق نفوذ لدول مجاورة والمهم هو نجاح الإدارة الجديدة في بناء مجتمع جديد يعيد للشعب السوري أمله في حياة أفضل بعيدا عن مآسي نصف قرن من الحكم الديكتاتوري لعائلة الأسد.
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الآداب – جامعة حلوان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك