في مدينة ماغديبورغ الألمانية، وقبل أعياد الميلاد بفترة وجيزة، تحول سوق نابض بالحياة إلى ساحة من الفوضى والرعب. كان السوق يعج بأصوات الباعة، وضحكات الأطفال، وأحاديث المتسوقين، بينما تملأ رائحة الكعك الطازج والتوابل الشتوية الأجواء. فجأة، اخترقت سيارة مسرعة هذا المشهد المفعم بالحياة، مندفعة وسط الحشود، حاصدة أرواحا بريئة في طريقها. حادثة صادمة أفسدت أجواء الفرح، وطرحت تساؤلات جوهرية: ما الذي يدفع إنسانا إلى اتخاذ قرار بهذه القسوة؟
مثل هذه الجرائم ليست حوادث منعزلة، بل هي جزء من سلسلة مؤلمة هزت العالم. ففي كرايستشيرش النيوزيلندية، اقتحم مسلح مسجدين أثناء صلاة الجمعة، مستهدفا المصلين في لحظة خشوع. وفي تشارلستون الأمريكية، اختار شاب متطرف كنيسة تاريخية ليطلق النار على مجموعة من المصلين أثناء أدائهم للقداس.
على الرغم من اختلاف الأماكن، فإن هناك خيطا مشتركا يربط هذه الأحداث، يكمن في عوامل نفسية واجتماعية تدفع الأفراد إلى تبني هذا الفكر المتشددة. أمثلة تسلط الضوء على ما وراء هذه الجرائم، حيث يجتمع شعور بالعزلة، تغذية مستمرة لفكر الكراهية، ونزعة قاتلة لتدمير الآخر بدلا من قبوله.
ربما يظن أن التطرف ينشأ نتيجة لحظة غضب أو قرار فردي مدفوع بالكراهية، لكنه في الواقع ظاهرة أكثر تعقيدا. هو نتاج تراكمات نفسية واجتماعية وأيديولوجية تحاصر الإنسان في دائرة من التعصب، تجرده من القدرة على قبول الآخر وتحرمه من التعايش معه.
هذه الأزمة لا تنتمي إلى دين أو ثقافة بعينها، بل هي تعبير عن شعور بالعزلة والاغتراب. في مثل هذه الحالات، تصبح الأيديولوجيات المغلقة وسيلة جذابة تقدم وعودًا خادعة لمعالجة الأزمات النفسية والاجتماعية، لكنها في الحقيقة تعمق هذه الأزمات وتجعل الانسياق نحوها أكثر خطورة.
جذور التطرف غالبا ما تتغلغل في إحساس الإنسان بعدم الانتماء أو شعوره بالتهميش داخل مجتمعه. هذا الشعور يولد فراغا يبحث الفرد عن ملئه بهوية بديلة تمنحه إحساسا بالمكانة والارتباط.
الأفكار المتطرفة تتسلل إلى هذا الفراغ وتوهم الأفراد بأنهم جزء من قضية ذات مغزى، حتى وإن كانت مدمرة لهم ولمن حولهم. وكما أشار الفيلسوف إريك فروم: “إن الإنسان الذي يفقد الشعور بالمعنى أو يعاني من انعدام الحرية الداخلية يصبح عرضة لتبني أفكار متطرفة تمنحه إحساسا زائفا بالقوة والهوية”. هذه الأيديولوجيات المضللة التي تقدم حلولا سطحية وسهلة لأزمات معقدة لا تؤدي إلا إلى تعزيز العزلة وتفاقم المشكلات، مما يدفع الأفراد إلى دوامة متزايدة من التطرف والانغلاق، حيث يصبح الخروج منها أكثر صعوبة بمرور الوقت.
أضافت وسائل التواصل الاجتماعي بعدا جديدا لتعقيد ظاهرة التطرف. أصبحت المنصات الرقمية بيئة خصبة لنشر الخطاب الضار، حيث تعتمد على خوارزميات مصممة لتحسين تجربة المستخدم من خلال عرض محتوى يتماشى مع اهتماماته وميوله. لكن هذه النظم أو التقنيات قد تؤدي، في بعض الأحيان، إلى حصر الأفراد في «فقاعات فكرية» تعزز قناعاتهم، بما في ذلك الأفكار المتطرفة. عندما يتعرض المستخدم بشكل مستمر لمحتوى يدعم ميوله الخاصة، يتضاءل انفتاحه على وجهات نظر مغايرة، مما يعمق العزلة ويضعف فرص بناء حوار فعال.
على الرغم من أن الغرض الأساسي لهذه الخوارزميات هو تحسين تجربة المستخدم، فإن آثارها السلبية قد تكون خطيرة إذا لم تدار بشكل صحيح. لذا، يجب على المنصات الرقمية تحمل مسؤولية أكبر من خلال تحسين آليات التوصية للمحتوى، مراقبة الأفكار الهدامة، ودعم المبادرات التي تشجع على قيم التسامح والحوار. بهذه الطريقة، يمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة لحل المشكلة بدلا من تفاقمها.
الأسرة هي الحصن الأول في مواجهة التطرف. دورها يبدأ بغرس القيم الأساسية التي تشكل وعي الأفراد منذ الطفولة، مثل القدرة على تحليل الأفكار، التمييز بين الصواب والخطأ، وتنمية الشعور بالمسؤولية تجاه النفس والمجتمع. من خلال الحوار المستمر والثقة، يمكن للأسرة أن تمنع شعور العزلة لدى الأبناء وتحميهم من الوقوع في فخ الأفكار التخريبية.
لكن المسؤولية لا تتوقف عند الأسرة، بل تمتد إلى التعليم. المدارس والجامعات لا تقتصر على دورها التعليمي التقليدي في نقل المعرفة، بل تمتد لتكون منصات لترسيخ القيم الإنسانية وتعزيز التفكير النقدي.
إن المناهج التعليمية التي تدعو للتسامح واحترام التنوع الثقافي يمكن أن تسهم في بناء أجيال قادرة على التعايش ومواجهة الأفكار المتشددة. كما أن الأنشطة التفاعلية مثل النقاشات المفتوحة والمشاريع الجماعية تعزز مهارات الحوار وتفتح آفاقا لفهم وجهات النظر المختلفة.
كذلك فان دور التعليم لا يقتصر على تعزيز الوعي الفردي، بل يشمل أيضا إعداد الطلاب ليكونوا جزءًا من الحل. يجب أن تكون المؤسسات التعليمية قادرة على توجيه الأفراد نحو بناء مجتمعات قائمة على الحوار، بعيدا عن العنف والتطرف.
التطرف يتخطى حدود كونه اختبارًا لإنسانيتنا، بل هو دعوة إلى تحديد المسار الذي سنسلكه كمجتمعات. هل نختار العمل على تقوية الروابط التي تجمعنا، أم نستسلم لخطابات الكراهية التي تفرقنا؟ الأوطان تبنى بالوعي والفعل، وليس بالتمني أو الشعارات. كل فرد يتحمل جزءًا من هذه المسؤولية، ليس فقط بحماية نفسه من الانزلاق، بل بالمساهمة في خلق بيئة تشجع على الحوار، وتبدد الفرقة بالوحدة، والتوتر بالتفاهم.
ان المستقبل لا يصنعه من يقف متفرجا، بل من يمد يده للبناء. كل خطوة نحو تعزيز التسامح وإرساء قيم العدالة هي خطوة نحو حماية أوطاننا من أي خطر يهدد استقرارها.
الوطن ليس مجرد مساحة جغرافية، بل هو انعكاس لوعي شعوبه، ورغبتهم في أن يتركوا إرثا من الأمان للأجيال القادمة. السؤال الذي يجب أن يقودنا دائما ليس: ماذا سيحدث إن لم نفعل؟ بل: كيف يمكن أن يبدو العالم عندما نختار أن نكون جزءًا من الحل؟
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك