كان المشهد في قاعة بولس السادس في الفاتيكان مؤثراً للغاية. فقد جاء البابا فرانسيس ليشكر أولئك الذين تبرعوا بشجرة عيد الميلاد والتماثيل المنحوتة بالحجم الطبيعي التي تصور ميلاد السيد المسيح عند سفحها.
وبينما كان البابا يجلس في صلاة صامتة، برز أمر واحد ألا وهو ذلك المذود المغطى بالكوفية الذي كان يرقد عليه الطفل يسوع. لقد كان ذلك المشهد بالغ الرمزية، وهاكم السبب.
إن ميلاد يسوع، كما ورد في الكتاب المقدس والتقاليد المسيحية، يخبرنا أنه بسبب عدم تمكن والديه من إيجاد مكان في بيت لحم، اضطروا إلى البحث عن مأوى في كهف يضم حيوانات.
وبعد ولادة يسوع، وضعته أمه السيدة مريم في مذود حيث كان الرعاة العاديون يأتون لتقديم الاحترام، وكان الملوك يأتون من الشرق حاملين الهدايا.
عندما أدرك الملك هيرودس، العميل الروماني الذي حكم هذه المنطقة من الإمبراطورية، هذا الميلاد والنبوءات بشأن قيادة الطفل لشعبه شعر بالخطر الذي يتهدده.
في سورة غضبه، أمر هيرودس بقتل كل الأطفال الصغار في المنطقة. وبعد أن تم تحذير والدي يسوع مسبقًا، فرّا مع طفلهما حديث الولادة إلى مصر إلى أن تهيأت الظروف وبات من الآمن العودة.
إن المسيحيين الفلسطينيين يرون أصداء محنة أمتهم في هذه القصة. إنهم منبوذون يعيشون تحت الاحتلال. لقد قيل لنا منذ البداية إن ميلاد المسيح كان ليبشر بنظام جديد يعد بالحرية للأسرى، ويذل الأقوياء والأغنياء ويجازى فيه أولئك الذين يثابرون من أجل العدالة. إن الفلسطينيين يدركون أن وجودهم وصمودهم يهددان بقلب النظام القائم.
وعندما تبنت الإمبراطورية الرومانية الدين المسيحي في وقت لاحق، أخذت صور المسيح طابع الملوك. فقد أصبح يُصوَّر كملك بالمعنى الأرضي، مرتديًا ثيابًا ملكية ومتوجًا بالذهب.
وفي خضم ذلك التحول، ضاعت الرسالة تلك التي تحملها القصة الأصلية. إن مشهد المذود في الفاتيكان يشكل تذكيراً قوياً بقصة يسوع الأصلية، حيث وُلد متواضعاً تحت الاحتلال، وكان والدا الطفل خائفين على سلامته. وفي هذا السياق، تشكل الكوفية لمسة مثالية ورمزية غزيرة المعاني.
قد لا يتفق الجميع مع هذا الرأي. ففي وقت سابق من هذا العام، اتُهم رئيس رابطة مكافحة التشهير، جوناثان جرينبلات، بربط الكوفية بالشارة التي كان يستخدمها النازيون.
وبناء على ذلك، ندد أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي بالبابا فرانسيس لوقوعه ضحية للكذبة الدعائية المعادية للسامية التي تساوي بين محنة الفلسطينيين وقصة عيد الميلاد. وهذا يتطلب الرد، لأن قصة رمزية الكوفية في حد ذاتها شيء يجب فهمه.
في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، كان الفلسطينيون يعيشون في ظروف مؤلمة. فقد انفصلوا عن بقية المشرق العربي، فيما وعد حكامهم الجدد، المتمثلين في حكومة الانتداب البريطاني، الحركة الصهيونية بمنحهم أرض فلسطين.
لقد فتح البريطانيون الباب أمام موجة هائلة من الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ومن أجل استعادة السيطرة على حياتهم وأرضهم ومستقبلهم، أطلق الفلسطينيون انتفاضة استمرت من عام 1936 إلى عام 1939.
خلال هذه الثورة الكبرى، نجح الفلسطينيون في تحرير ما يقرب من 80% من الأرض. ولم تنته الثورة إلا باتفاق تم بين البريطانيين (الذين كانوا في حاجة إلى تحرير أنفسهم من هذا الصراع في ضوء مخاوفهم من الحرب الوشيكة في أوروبا).
وفي خضم تلك الأحداث تم التوصل إلى اتفاق، تعهد من خلاله البريطانيون بتشكيل لجنة لدراسة المشكلة، وتعليق الهجرة، وفي النهاية احترام التطلعات العربية في فلسطين، غير أنهم لم يفوا أبدا بوعودهم للعرب ولم يفعلوا ذلك.
خلال السنوات الثلاث التي شهدت الثورة، شن البريطانيون حملة قمعية خلفت خسائر فادحة. فقد قتلوا أكثر من خمسة آلاف شخص واعتقلوا أكثر من 12600. ولأن القيادة كانت متمركزة في المناطق الحضرية، فقد سعى بعض القادة الفلسطينيين إلى الهروب من الاعتقال والقمع من خلال ارتداء زي الفلاحين، وخاصة الكوفية ذات المربعات.
وعندما أسس ياسر عرفات حركة فتح، ورغم أن قادتها كانوا أيضاً من النخبة الحضرية، فإنهم تبنوا الكوفية أيضاً كرمز لتمسكهم بالأرض ومن يعملون فيها.
لذلك فإن محاولة تقليص معنى الكوفية إلى مجرد عمل معادٍ للسامية تشكل إهانة للتاريخ الفلسطيني والإنساني، بل إن دمج الرمزين – أي المذود والكوفية – حركة رمزية مثالية تعطي بعض الأمل لمن فقدوا الأمل، والراحة لمن يعانون، والاعتراف بمن تخلى عنهم العالم.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك