منذ فجر التاريخ والمرأة بصمتها لا تخطئها العين، هي شريان الحياة الذي يغذي المجتمعات. ورغم أنها كثيرًا ما عملت بصمت ودون أضواء، استطاعت عبر رحلة الإنسانية الطويلة أن تثبت حضورها. إذ تخطت التحديات الاجتماعية والثقافية لتتحول من دور هامشي تقليدي إلى شريك فاعل في قيادة التحول والتغيير. واليوم، في كل زاوية وركن، تصنع بإرادتها مستقبلاً يليق بأحلامها وطموحاتها.
عرفت المجتمعات القديمة قيمة المرأة، كونها رأت فيها رمزا للوجود وكانت في نظرهم سر البقاء لقدرتها على الإنجاب واستمرار الحياة، لكن مع بروز النظام الذكوري، تقلص دورها تدريجيا، وحصرت في أدوار محدودة. رغم ذلك، استطاعت شخصيات نسائية استثنائية مثل الملكة حتشبسوت، التي حكمت مصر القديمة، وكليوباترا، آخر ملكات البطالمة، أن يبرزن كرموز للقيادة عبر إنجازاتهما السياسية والتجارية، حيث أثبتتا أن الأدوار التقليدية لا يمكنها أن تحد من الطموح أو تكبل الإرادة.
ورغم التراجع في بعض الفترات، لم تغب المرأة تماما عن المشهد. ففي العصور الوسطى، استطاعت ترك بصمة لا تنسى. فاطمة الفهرية، على سبيل المثال، أضاءت التاريخ بتأسيس جامعة القرويين في فاس، التي مازالت تعمل حتى اليوم كأقدم جامعة في العالم. وفي الأندلس، جمعت ولادة بنت المستكفي نخبة الأدباء في صالونها الأدبي، جاعلة من الإبداع والتجديد الثقافي منارة تتحدى القيود الاجتماعية. كانت تلك الشخصيات دليلا على أن الإبداع لا يعترف بالحواجز.
ومع دخول القرنين التاسع عشر والعشرين، اشتدت حركات المطالبة بحقوق المرأة، وبدأت تأخذ شكلا أكثر تنظيما وصخبا، ما أدى إلى حصول النساء على إنجازات كبرى مثل حق التصويت في الولايات المتحدة عام 1920، لكن رغم هذه النجاحات بقيت العقبات قائمة، أبرزها فجوة الأجور بين الجنسين، حيث تتقاضى النساء في الولايات المتحدة أقل بنسبة 18-20% عن الرجال في بعض القطاعات. وفي اليابان، مازالت التقاليد الثقافية تحد من وصول النساء إلى المناصب القيادية، مما يعكس صراعا بين الطموح والحواجز المجتمعية.
أما في العالم العربي، فالسنوات الأخيرة حملت قفزات استثنائية للمرأة. على سبيل المثال. في المملكة العربية السعودية، أحدثت رؤية 2030 تغييراً جذرياً، حيث أصبحت النساء يقدن الشركات، ويدرن المشاريع الضخمة، ويتبوأن المناصب القيادية. وبالنسبة للإمارات العربية المتحدة، فقد دعمت الدولة المرأة بقوة، حتى أصبحت شريكا حقيقيا في اتخاذ القرار وصناعة المستقبل.
ولا يمكنني الحديث عن إنجازات المرأة العربية من دون أن أتوقف بإعجاب شديد عند أيقونة العمارة العالمية الراحلة، زها حديد، التي غيرت وجه الهندسة المعمارية في القرن العشرين. أتذكر بإعجاب شديد زيارتي لمركز حيدر علييف في باكو، أذربيجان، حيث وقفت مذهولة أمام تصميمها المنساب كموجات البحر. كيف استطاعت هذه المرأة العراقية أن تحول الخرسانة الصلبة إلى خطوط انسيابية تتراقص مع الضوء؟ مبناها يتحدى قوانين الجاذبية بأشكاله المنحنية وزواياه غير التقليدية، كما لو كانت تقول للعالم إن المرأة قادرة على كسر كل القوالب النمطية. زها حديد لم تكن مجرد مهندسة معمارية، بل كانت رسالة حية عن قدرة المرأة العربية على تجاوز الحدود والوصول إلى العالمية، تاركة إرثاً يلهم أجيالاً من النساء في مختلف المجالات.
ولعل ما يثير الإعجاب أيضا، كيف استطاعت المرأة أن تطوع التكنولوجيا الحديثة لصالحها. فقد فتحت المنصات الرقمية أبوابا جديدة لدخول سوق العمل، سواء من خلال العمل عن بعد أو إطلاق المشاريع الخاصة. كما أسهمت البرامج التدريبية في مجالات التكنولوجيا والهندسة في تقليل الفجوة بين الجنسين، ما مكن النساء من التوفيق بين حياتهن المهنية والشخصية.
المرأة البحرينية في طليعة التغيير والنهضة:
لم تقف المرأة البحرينية يوماً على هامش التغيير في وطنها، وكيف لها أن تقف وهي تنبض بحب هذا الوطن؟ كنت أسمع والدتي دائما تقول، «المرأة نصف المجتمع وأم نصفه الآخر» وها هي المرأة البحرينية تترجم هذه المقولة إلى واقع ملموس. بثقة وإصرار، واجهت التحديات وتركت بصمتها في كل ميدان دخلته.
إن جائزة صاحبة السمو الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة رئيسة المجلس الأعلى للمرأة لتمكين المرأة تعد شاهداً بارزاً على الجهود الوطنية لدعم المرأة البحرينية وتعزيز دورها في مختلف القطاعات. هذه الجائزة ليست مجرد احتفاء بالإنجازات، بل هي منصة تحفز المؤسسات على تبني سياسات تمكينية ودعم الكفاءات النسائية. من خلال هذا الإطار، تفتح الجائزة آفاقاً أرحب أمام المرأة البحرينية لمواصلة مسيرتها بثقة، مما يؤكد أن التغيير يبدأ حين تمنح الفرص ويحتفى بالإبداع.
هذا النجاح لم يكن وليد اللحظة، بل هو ثمرة جهود متنوعة تسعى إلى تمكين المرأة البحرينية وتعزيز دورها. ونلاحظ ان الجهات الرسمية الداعمة للمرأة ومؤسسات المجتمع المدني تعمل بإمكاناتها القصوى لتحقيق أهداف مشتركة تخدم المرأة والمجتمع. ومع هذه المساعي المباركة، يبقى التطلع إلى تكامل أكبر بين الجهود، لتعزيز الإنجازات وتحقيق المزيد من التقدم للوطن.
ومع كل هذه المكتسبات المضيئة، تتطلع المرأة البحرينية بعين التفاؤل إلى المزيد من التطور في مسيرة التمكين، خاصة في تعزيز الاستقرار الأسري لأبناء البحرينية المتزوجة من غير بحريني، وتحديث الأطر القانونية للأحوال الشخصية. هذه التطلعات المشروعة تعكس حرص المرأة البحرينية على تماسك نسيجها العائلي وتوثيق ارتباط أبنائها بوطنهم الأم، وتأتي امتداداً طبيعياً لمسيرة التنمية الشاملة التي تشهدها المملكة في ظل توجيهات القيادة الحكيمة.
وحصاد القول-أو دعوني أعبر بكل صدق- تبقى حكاية المرأة البحرينية أعمق من أن تختصر في كلمات- فهي قصة كفاح مستمر وإرادة لا تعرف المستحيل. ففي يوم المرأة البحرينية، نحتفي بكل امرأة أضافت بصمتها الخاصة، سواء كانت أمّا تسهر على تنشئة أجيال المستقبل، أو قيادية تصنع القرار، أو طالبة تسعى لتحقيق طموحاتها. أنتِ النبض المتجدد للوطن وروحه المتألقة. بإصراركِ وعطائكِ المستمر، ترسمين ملامح مستقبل أكثر جمالا للبحرين، وتؤكدين أن التقدم يبدأ من قوة تؤمن بذاتها وتصنع التغيير بيدها.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك