ربما لم تكن من قبيل الصدفة حينما استخدم الرئيس الأمريكي آنذاك بوش الابن مصطلح الحروب الصليبية في خطابة يوم الرثاء الوطني، حين قال: «هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب ستأخذ بعض الوقت»، وذلك إبان أحداث وتبعات 11 سبتمبر 2001 بعد انفجار الأبراج التجارية، ولقد حاولت وسائل الإعلام المختلفة أن تبرر هذه المقولة بطريقة أو بأخرى، إلا أنها انطلقت وجابت الكرة الأرضية وكانت واضحة المعالم لا تحتاج إلى تفسير.
وبالعودة إلى تاريخ الحروب الصليبية، نعتقد أن الحروب الصليبية لم تنطلق بدعوى وبمباركة البابا (أوربان الثاني) الفرنسي الجنسية عام 1095 ميلادية واستجابة لنداء الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنينوس (فترة حكمه 1081 – 1118) الذي ادعى أنه يحارب التوسع (التركي السلجوقي)، وإنما نعتقد أنها بدأت منذ اللحظات الأولى من الفتح الإسلامي لبلاد الشام والعراق وتحطيم الدولة المجوسية الفارسية والدولة البيزنطية، حينها وجدت كل تلك القوى أنها خسرت كل تلك الثروات والسلطة التي كانت تتمتع بها في استعباد الشعوب، فتقابلت رغبات ونزوات كل تلك القوى في الظلام وبدأت تخطط وتحاول أن تستعيد نفوذها في السيطرة على البشر خلال فترات الحكم الإسلامي على كل تلك المناطق، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل، فتعاهدت قوى الظلام أن تستمر حتى جاء أوربان الثاني فصرخ صرخته التي غلفها بغلاف ديني، لتنطلق الهمجية من أوربا محاولة طمس النور والحضارة الموجودة في الشرق الإسلامي.
ومن المعروف –كما تشير كتب التاريخ– أن الحروب الصليبية يمكن اعتبارها مجموعة من الحملات (1096 – 1291)، بدايتها في فترة تنصرت فيها أوروبا، وجاءت الدعوة إليها من البابا (أوربان الثاني) في نوفمبر 1095 بعقد مجمع لرجال الدين، بررت تطبيق (إرادة الرب) عن طريق الحج إلى الأرض المقدسة.
وبدأت الحملات الصليبية (بحملة الفقراء)، ولكن سحقتهم قوات السلاجقة الأتراك في أكتوبر 1096م، ثم الحرب (الصليبية الأولى) في أغسطس 1096، وصلت القسطنطينية نهاية العام، وأسفرت عن احتلال القدس، ومن ثم الحملة الثانية عام 1147، وكان قادتها لويس السابع ملك فرنسا وكونراد الثالث هوهنشتاوفن إمبراطور الجرمان (ألمانيا)، وهي أول حملة يشترك فيها الملوك، ومنيت بهزيمة ساحقة.
وفي يوليو 1187 وقعت معركة حطين التاريخية، والتي انتصر فيها صلاح الدين الأيوبي سلطان مصر، فحرر القدس، مما دفع البابا (جريجوريوس الثامن) إلى الدعوة إلى حملة صليبية ثالثة، وقادها ملك فرنسا فيليب أ(وجست الثاني)، وملك إنجلترا (ريتشارد قلب الأسد)، وملك الجرمان (فريدريك الأول)، لكن غرق في النهر، فتشردت قواته، وقام الصليبيون بحصار عكا، وجرت مذبحة عظيمة.
والحملة الرابعة، دعا إليها البابا (اينوشنتيوس الثالث) في عام 1202، وخطط الصليبيون لدفع القوات إلى مصر، لضرب القوة الإسلامية الكبرى في المنطقة، والحملة الخامسة، حينما سعى (اينوشنتيوس) أيضًا لحملة صليبية عام 1213، وتوجهوا إلى مدينة دمياط واستولوا عليها، واستكمل الهجوم نحو المنصورة، وحينها بدأ فيضان النيل، وفتح المصريون السد، وحاصرتهم قوات المسلمين، وغرق المئات، وأسر لويس التاسع فطلب الصليبيون الصلح، ومنيت الحملة بالفشل.
والحملة السادسة، قادها الإمبراطور فريدريك الثاني الألماني ولم تحظ بمباركة البابوية، وقامت الحملة السابعة، بعد الهزيمة التي لحقت بفصائل الصليبيين وخسارتهم للقدس.
كانت الحملات كلها همجية ووحشية وقد كانت هذه الحملات نموذجًا للإرهاب المنظم المغلف بغلاف ديني، ويعلق البروفيسور (بارت إيرمان) أستاذ الدراسات الدينية في جامعة نورث كارولينا، يقول: «كانت الحروب الصليبية دليلاً عمليًا على همجية ووحشية ما قامت به شعوب وممالك، وكنائس باسم العقيدة والدين، ضد العرب والمسلمين في المشرق العربي، وربما كانت أفظع أعمال الصليبيين أكلهم لحوم أعدائهم، بعدما طهوها أو شيّها، ولم تكن مجزرة (معرة النعمان)، إلا أحدها».
وروى ابن الأثير عن دخول الصليبيين للقدس فقال: «قتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا. وقام ريتشارد قلب الأسد في الحملة الصليبية الثالثة، بذبح 2700 أسير من المسلمين في عكا»، وذكر (جوستاف لوبون) في كتابه (الحضارة العربية) نقلاً عن رهبان ومؤرخين قالوا: «كان قومنا يجوبون الشوارع والبيوت، يذبحون الأولاد والشباب، ويقطعونهم إربًا، ويبقرون بطون الموتى، والدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث، لقد أفرط قومنا في سفك الدماء، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة. وفي المعرة قتلوا جميع من كان فيها في الجوامع والسراديب، فأهلكوا ما يزيد على مئة ألف إنسان.
واليوم تعود الحروب الصليبية تحت مسمى جديد يتوافق مع القرن الذي نعيشه، وهو (النظام الدولي الجديد)، والذي بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وأصبح العالم يخضع لقطب واحد من التحكم، وربما يكون هذا ظاهرًا حينما نتأمل السياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية والتي يمكن تلخيصها في نقطتين، وهما:
* حماية المصالح الأمريكية في المنطقة وبالتحديد المصالح الاقتصادية والنفطية،
* تقديم كل أنواع الدعم لدولة الاحتلال.
وقد تكون النقطة الأولى واضحة عند كثير من الناس في كل المعمورة، ولكن موضوع الدعم الكامل واللا محدود، أو الكيل بمكيالين لما تقوم به دول الغرب في الحروب بين العرب ودولة الاحتلال قد يكون غير واضح للكثيرين. لذلك حتى نفهم ذلك أعتقد أنه يجب أن نعود إلى جذور تلك العلاقة التي كانت نوعًا ما مخفية إلا أنها بدأت واضحة للعيان في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين ليبرز لنا مصطلح (الصهيونية المسيحية أو المسيحية الإنجيلية)، فما هذه الحركة؟ وكيف أنشئت؟ وما أهدافها؟
تشير المراجع إلى أن الصهيونية المسيحية نشأت في القرن السابع عشر في إنجلترا، وتقول الدراسات إنه تم ربطها بالسياسة لا سيما بتصور قيام دولة يهودية حسب زعمها لنبوءة الكتاب المقدس، ومع بدء الهجرات الواسعة إلى الولايات المتحدة أخذت الحركة أبعادًا سياسية واضحة وثابتة، كما أخذت بعدًا دوليًا يتمثل في تقديم الدعم الكامل للشعب اليهودي في فلسطين.
إلا أن دراسات أخرى تعيد جذور هذه الحركة بتيار ديني يعود إلى القرن الأول للمسيحية، ويسمى بتيار (الألفية)، وهو معتقد ديني نشأ في أوساط المسيحيين من أصل يهودي، ويعود إلى استمرارهم في الاعتقاد بأن المسيح سيعود إلى هذا العالم محاطًا بالقديسين ليملك الأرض ألف سنة ولذلك أطلق عليه (بالألفية).
ويُعد تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية الحديثة هو أول من استخدم مصطلح (الصهيونية المسيحية)، وعرفه بأنه (المسيحي الذي يدعم الصهيونية)، بعد ذلك تطور المصطلح ليأخذ بُعدًا دينيًا، وأصبح المسيحي المتصهين هو (الإنسان الذي يساعد الله لتحقيق نبوءته من خلال دعم الوجود العضوي لإسرائيل، بدلاً من مساعدته على تحقيق برنامجه الإنجيلي من خلال جسد المسيح).
أما مصطلح (إنجيلي) هي الترجمة العربية الشائعة لمصطلح (إيفانجيليكل)، ويُقصد بها في الولايات المتحدة كل الطوائف المسيحية البروتستانية التي تميزت عن البروتستانت التقليديين بعدد من المعتقدات، أبرزها إيمانها بمفهوم (الولادة الثانية) أو (ولادة أو عودة الروح)، ويرجع تاريخهم إلى القرن الثامن عشر حين كانت أمريكا مجموعة من المستعمرات، لكن هذه الطائفة مرت بتحولات عديدة حتى صارت مشهورة في يومنا هذا بنشاطها السياسي وانخراط كثير من أتباعها في صفوف (اليمين المسيحي)، وتقاطعها فكريًا وسياسيًا مع دولة الاحتلال والحركة الصهيونية.
يقول الدكتور محمد عارف زكاء الله في كتابه (الدين والسياسة في أمريكا): وسواء كنا نتحدث عن الصهيونية المسيحية أو المسيحية الإنجيلية فإنهم يؤمنون أن المسيح سينزل إلى الأرض لينشئ مملكة الله التي ستستمر ألف سنة من السعادة، كما يؤمنون أن إسرائيل هي العامل المسرع لأحداث نهاية الزمان، ولذلك فإن دعمها يجب أن يكون من ثوابت السياسة الأمريكية.
في كتاب (الصهيونية المسيحية) للمؤلف أحمد حسن سيد غنيم يشير إلى قول (مايك إيفتر)، وهو يهودي تنصر لكي يدعم قضايا اليهود، وتحول إلى قس، كما أنه صديق لجورج بوش الابن وذو مكانة مرموقة في الحزب الجمهوري، إذ قال: «إن الله يريد من الأمريكيين نقل سفارتهم من تل أبيب إلى القدس، لأن القدس هي عاصمة داوود ... إذا لم يعترفوا بالقدس ملكية يهودية فإننا سندفع ثمن ذلك من حياة أبنائنا وآبائنا، إن الله سيبارك الذين يباركون إسرائيل وسيلعن لاعنيها».
ويشهد الإعلام الأمريكي اليوم – كما تشير المراجع– حضورًا متزايدًا لهذه التيار، إذ إن هناك ما يقرب من 100 محطة تلفزيونية، إضافة إلى أكثر من ألف محطة إذاعية، ويعمل في مجال التبشير به ما يقرب من 80 ألف قسيس. ليس ذلك فحسب بل وتترجم حركة المسيحية الصهيونية أفكارها إلى سياسات داعمة لإسرائيل، وتطلب ذلك خلق منظمات ومؤسسات تعمل بجد نحو تحقيق هذا الهدف. لذلك، قامت حركة المسيحية الصهيونية بإنشاء عديد من المؤسسات مثل (اللجنة المسيحية الإسرائيلية للعلاقات العامة)، و(مؤسسة الائتلاف الوحدوي الوطني من أجل إسرائيل)، ومن أهداف هذه المؤسسات دعم دولة الاحتلال لدى المؤسسات الأمريكية المختلفة، السياسي منها وغير السياسي. وخلال السنوات الأخيرة، أصبحت منظمة (مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل)، التي يرأسها القس (جو هاجي)، من أهم هذه المؤسسات ذات النفوذ الطاغي في السياسة الأمريكية.
وثمة منظمة إنجيلية أخرى هي (السفارة المسيحية العالمية)، التي تضم مسيحيين متضامنين مع إسرائيل من كل أنحاء العالم. تقوم هذه المنظمة بعقد مؤتمر سنوي في القدس منذ حوالي 40 عامًا يشارك فيه آلاف من الإنجيليين من شتى أنحاء العالم، ويعَد الحدث السياحي الأكبر في إسرائيل سنويًا. وتدعي المنظمة، التي تنشط فيما تسمّيه (الدبلوماسية الإنجيلية)، أنها تمتلك فروعًا في 90 دولة وأنها تعمل في 170 دولة.
وهكذا تعود الحروب الصليبية الصهيونية اليوم، والتي ما زالت مغلفة بغلاف ديني، لعلنا نفهم.
وما زال للحديث بقية.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك