عالم يتغير
فوزية رشيد
أطفالنا لا يعيشون طفولتهم الطبيعية!
{ صحيح أن معطيات ومفردات هذا الزمن تغيرت كثيراً، حتى أصبح العالم الافتراضي والإلكتروني مسيطراً على كل جنبات الحياة، خاصة في العقدين الماضيين! ولكن إن لم يكن بإمكان الدول والشعوب إلا الانجرار وراء الحياة الافتراضية والإلكترونية، ما جعل الشعوب تخرج من مرحلة الانجرار إلى مرحلة (الاستغراق الكامل)، فإن هذا بحد ذاته هو «الإشكالية» خاصة بالنسبة إلى الأطفال والأجيال الصغيرة، التي تم تسميتها بـ(الجيل الإلكتروني)! وبعدهم وربما معهم جيل (الميتا) الذي يعني استبدال الحياة الطبيعية تماما، بالعالم الافتراضي، سواء في العمل أو السياحة أو السفرات عبر مناظير البعد الثلاثي، كما يروّج الممولون والمصنعون وأصحاب الانسياق وراء التطرف الإلكتروني! كل ذلك وغيره يأتي على حساب المعايشة الطبيعية للحياة!
{ إن سيطرة العالم الافتراضي والإلكتروني وعالم الروبوتات والآلات، وزراعة الشرائح في أدمغة الأطفال، بما ينتج في النهاية «أطفالاً جوجليين» -من جوجل- وبما لا يدع مكانا في المستقبل حتى للتعليم الطبيعي! فالمعلومات متوافرة في الأدمغة بخرائط جوجل للتعليم! كل ذلك يبدو للبعض أنه بعيد الحدوث، رغم أن التطورات فيه متسارعة بحيث نجده في المستقبل القريب وليس البعيد روتينا في الحياة المعاصرة! كما حدث بالنسبة إلى الكثير من الأمور المتعلقة بالعادات والتقاليد والقيم والأخلاق وحتى النظرة إلى الدين!
{ إن نتيجة انعكاس وتأثير الحياة المعاصرة الداخلة بكل عمق في الحياة المادية والحياة الآلية والسيطرة الإلكترونية، سرق من أطفالنا المعايشة الطبيعية للحياة! وهي المعايشة الضرورية لتطور سيكولوجي طبيعي للأطفال والأجيال القادمة، ما جعل أطفال هذا الزمن ولبنة المستقبل خاضعين لتأثيرات معلمين مجهولين في المواقع الإلكترونية، والألعاب وغيرها! فأصبح الأطفال عرضة بشكل كبير لكل أشكال الاختلافات السيكولوجية! حيث تثبت الدراسات الحديثة والمستقبلية التي تستشرف المستقبل، أن الأطفال أصبحوا أكثر عرضة بكثير، وبنسب مخيفة للتقلبات النفسية وللاكتئاب والتوحد والانعزالية من الأجيال السابقة، وهذا الأمر تزداد وطأته مع كل تطور إلكتروني وتكنولوجي، يجعل من الأطفال والأجيال مجرد مواد أو أرقام (استقبال ذهني) لما يتم بثه في عقولهم، من معلومات وأخلاقيات خاطئة! خاصة مع تهيئة كل الظروف في البلدان المتطورة والنامية معاً لتطبيق المزيد والمزيد من آليات الحياة الإلكترونية والافتراضية، بحيث تُحكم قبضتها على عقول المتلقين من الأطفال، بل ومن كل الأجيال الراهنة والقادمة!
{ أطفالنا يقضون معظم وقتهم مع الأجهزة سواء الهاتف الذكي أو الآيباد أو الألعاب الإلكترونية ومنها ألعاب خبيثة! وحتى حين يلعبون فهم يلعبون في صالات مغلقة مليئة بدورها بالألعاب الآلية والأجهزة الإلكترونية، لتكون ساحة لعبهم مدفوعة الثمن، هي بدورها (ساحة مغلقة) أغلب الأوقات! ومن جهاز الى جهاز تتناوب على العقول أساليب الآلة في الدراسة والتعليم واللعب أيضا!
وتكتسح «التقنيات الآلية» نشاط العقل وتسيطر عليه، حتى يصبح إدماناً، إذ يتم فيها استبدال الحياة والأنشطة الطبيعية الجماعية بأنشطة الحياة عبر الأجهزة والآلات والحواسيب والهواتف الذكية والإنترنت!
{ هؤلاء الأطفال محرومون في الحقيقة من متعة الحياة العائلية، ومتعة الصداقات الطبيعية، ومتعة اللعب في الفضاءات المفتوحة، ومتعة معايشة الطبيعة بمفرداتها المعروفة كاللعب في البحر، واللعب بالتراب والرحلات الجماعية، والإحساس بتأثير العائلة الممتدة، وحميمية الآباء والأمهات والأجداد والجدات والعمّات والخالات والأقارب عموماً إلا فيما ندر!
لقد استبدلوا الحياة والمتعة والطبيعة والتواجد العائلي والرحلات والتجمعات الإنسانية الكبرى، بالالتصاق بالآلة! ولذلك وهم في تجمع عائلي يبقون ملتصقين بهواتفهم الذكية، ويمارسون اللعب فيها، ويعايشون أصدقاءهم الافتراضيين!
{ لم يعرف هؤلاء الأطفال متعة الحميمية العائلية، والجلوس أمام مدفأة الشتاء «المنقل الشتوي» والاستماع لحكايات الجد أو الجدة! فالقنوات مليئة بالرسوم المتحركة، والحميمية ملتصقة بتلك البرامج وحدها! وفي النهاية هو وحده أو هم وحدهم مرة بعد مرة! ليقول البعض (هكذا هي الحياة المعاصرة)! نعم هي الحياة المعاصرة التي تتحكم فيها الشركات الكبرى التي تسيّر كل شيء فيها، حتى أطفالنا وأجيالنا! فيبرعون فيما يُراد لهم أن يبرعوا فيه، ولكن بعد سرقة طفولتهم الطبيعية وحياتهم الطبيعية! إنه كما نرى ثمنٌ باهظٌ ليس كمثله أي ثمن! خاصة مع الاستغراق فيه والتوحّد به!، حتى أصبحت الآلات والروبوتات هم أصدقاء وعائلة المستقبل القريب القادم! فهل يعيش الأطفال طفولتهم؟! وهل يعيش الإنسان إنسانيته؟! ألا مجال للتأمل في مآلات هذا الاستغراق؟!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك