العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وصرت تلفزيونجيا

سبحان‭ ‬الله،‭ ‬فرغم‭ ‬أنني‭ ‬ظللت‭ ‬لسنوات‭ ‬طوال‭ ‬بعد‭ ‬دخولي‭ ‬الحياة‭ ‬العملية،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كنه‭ ‬الكهرباء،‭ ‬ولا‭ ‬كيف‭ ‬ينقل‭ ‬الأثير‭ ‬الصورة‭ ‬والصوت‭ ‬عبر‭ ‬آلاف‭ ‬الأميال،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الأقدار‭ ‬أدخلتني‭ ‬سوح‭ ‬العمل‭ ‬الإعلامي،‭ ‬حيث‭ ‬وجدت‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬ممتعا،‭ ‬وكان‭ ‬التحدي‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬ولجت‭ ‬فيه‭ ‬ذلك‭ ‬العالم،‭ ‬لأن‭ ‬معظم‭ ‬البرامج‭ ‬كانت‭ ‬تبث‭ ‬حية،‭ ‬بسبب‭ ‬الكلفة‭ ‬العالية‭ ‬للتسجيل‭ ‬في‭ ‬أشرطة‭ ‬فيديو‭ ‬كان‭ ‬عرض‭ ‬الواحد‭ ‬منها‭ ‬خمسة‭ ‬سنتيمترات،‭ ‬وعشنا‭ ‬وشفنا‭ ‬تصوير‭ ‬أفلام‭ ‬بالفيديو‭ ‬بدون‭ ‬أي‭ ‬شريط،‭ ‬فالتلفون‭ ‬الجالس‭ ‬إلى‭ ‬جواري‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬به‭ ‬لقطات‭ ‬فيديو‭ ‬ذات‭ ‬جودة‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نبثها‭ ‬للمشاهدين‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬تسجيلها،‭ ‬والممتع‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬والصحافة‭ ‬عموما‭ ‬عدم‭ ‬الرتابة،‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬يأتيك‭ ‬جديد‭ ‬أو‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬بجديد،‭ ‬وطفش‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬التلفزيونات‭ ‬الرسمية‭ ‬لأنها‭ ‬تلت‭ ‬وتعجن‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الكلام‭ ‬الخارِم‭ ‬بارِم،‭ ‬وهو‭ ‬الكلام‭ ‬الذي‭ ‬بلا‭ ‬أساس‭ ‬أو‭ ‬رأس،‭ ‬الغرض‭ ‬منه‭ ‬بلغة‭ ‬المصريين‭ ‬‮«‬أكل‭ ‬العقول‭ ‬بحلاوة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬الاستكراد‭ ‬والضحك‭ ‬على‭ ‬العقول،‭ ‬ولأن‭ ‬العيال‭ ‬كبرت‭ ‬والعقول‭ ‬تفتحت‭ ‬فقد‭ ‬صار‭ ‬بإمكانك‭ ‬أن‭ ‬تشتري‭ ‬جهاز‭ ‬استقبال‭ ‬بث‭ ‬فضائي‭ ‬بسعر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬معقول‭ ‬لتستقبل‭ ‬مئات‭ ‬القنوات،‭ ‬أو‭ ‬تفتح‭ ‬الإنترنت‭ ‬فتكتشف‭ ‬حقائق‭ ‬عتمت‭ ‬عليها‭ ‬قناة‭ ‬بلادك‭ ‬الرسمية،‭ ‬ولماذا‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التعب‭ ‬وهاتفك‭ ‬الذكي‭ ‬أذكى‭ ‬منك‭ ‬ومن‭ ‬الحكومة‭ ‬وينقل‭ ‬إليك‭ ‬الخبارات‭ (‬جمع‭ ‬خبر‭ ‬في‭ ‬العامية‭ ‬السودانية‭ ‬على‭ ‬وزن‭ ‬عصيرات‭ ‬كجمع‭ ‬عصير‭ ‬في‭ ‬السعودية‭).‬

ورغم‭ ‬أنني‭ ‬التحقت‭ ‬بالتلفزيون‭ ‬السوداني‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ديكتاتورية‭ ‬جعفر‭ ‬نميري،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬القواعد‭ ‬التي‭ ‬أرساها‭ ‬جيل‭ ‬مؤسسي‭ ‬التلفزيون‭ ‬كانت‭ ‬سائدة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كان‭ ‬التدخل‭ ‬الحكومي‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬نشرات‭ ‬الأخبار‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬جميع‭ ‬التلفزيونات‭ ‬الرسمية،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يتصدر‭ ‬النشرة‭ ‬خبر‭ ‬عن‭ ‬رأس‭ ‬الجمهورية،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬تتعلق‭ ‬بعيد‭ ‬ميلاد‭ ‬ابنة‭ ‬سائق‭ ‬سيارته،‭ ‬وأسوأ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الإعلامي‭ ‬أنه‭ ‬يصيب‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬العاملين‭ ‬فيه‭ ‬بوهم‭ ‬‮«‬العظمة‮»‬،‭ ‬فتجدهم‭ ‬يمارسون‭ ‬العنطزة‭ ‬ويمشون‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬والأماكن‭ ‬العامة‭ ‬وهم‭ ‬يحسبون‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الأعين‭ ‬تلاحقهم‭ ‬بالإعجاب،‭ ‬فتراهم‭ ‬يوزعون‭ ‬ابتسامات‭ ‬بلاستيكية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يمر‭ ‬بهم،‭ ‬ولكن‭ ‬المجموعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬السوداني‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كانت‭ ‬متجانسة‭ ‬ويرتبط‭ ‬أفرادها‭ ‬بمحبة‭ ‬صادقة،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬نتشارك‭ ‬الوجبات،‭ ‬ونعود‭  ‬مرضانا‭ ‬ونعزي‭ ‬كل‭ ‬مكلوم‭ ‬بفقد‭ ‬عزيز‭ ‬جماعيا،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬زميلا‭ ‬فقد‭ ‬ابنه‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬مساء‭ ‬في‭ ‬حادث‭ ‬مروري،‭ ‬فدخلنا‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬الفيديو‭ ‬واختار‭ ‬احد‭ ‬الزملاء‭ ‬شريطا‭ ‬كان‭ ‬مكتوبا‭ ‬على‭ ‬غلافه‭ ‬الخارجي‭ ‬أن‭ ‬مدته‭ ‬ساعتان،‭ ‬فقمنا‭ ‬بتشغيل‭ ‬الشريط‭ ‬وخرج‭ ‬جميع‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬التلفزيون‭ ‬لأداء‭ ‬واجب‭ ‬العزاء،‭ ‬ولو‭ ‬اقتحم‭ ‬شخص‭ ‬يعرف‭ ‬ابجديات‭ ‬العمل‭ ‬التلفزيوني‭ ‬المبنى‭ ‬وأذاع‭ ‬بيانا‭ ‬يلعن‭ ‬فيه‭ ‬خاش‭ ‬الحكومة‭ ‬أو‭ ‬أذاع‭ ‬البيان‭ ‬رقم‭ ‬واحد‭ ‬زاعما‭ ‬أنه‭ ‬استولى‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬لما‭ ‬وجد‭ ‬من‭ ‬يوقفه،‭ ‬ومن‭ ‬سخرية‭ ‬الأقدار‭ ‬أن‭ ‬الشريط‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬عليه‭ ‬الاختيار‭ ‬حتى‭ ‬يغطي‭ ‬غيابنا‭ ‬لحضور‭ ‬مأتم‭ ‬والحزن‭ ‬الصادق‭ ‬يغمرنا‭ ‬كان‭ ‬لحفلة‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬القومي‭ ‬في‭ ‬أم‭ ‬درمان،‭ ‬حيث‭ ‬غنت‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬هذه‭ ‬ليلتي‭ ‬وحلم‭ ‬حياتي‮»‬‭.‬

وكل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬ظلت‭ ‬الوجوه‭ ‬المألوفة‭ ‬لدي‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬السوداني‭ ‬تختفي،‭ ‬فقد‭ ‬هاجر‭ ‬المذيعون‭ ‬والفنيون،‭ ‬وكنت‭ ‬ضمن‭ ‬فوج‭ ‬المهاجرين‭ ‬الأوائل،‭ ‬ليس‭ ‬بسبب‭ ‬ضيق‭ ‬العيش‭ (‬بمعنى‭ ‬شح‭ ‬المال‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬بسبب‭ ‬التضييق‭ ‬المتواصل‭ ‬علي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية،‭ ‬فبما‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬من‭ ‬أرباب‭ ‬السوابق‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬سجينا‭ ‬سياسيا،‭ ‬وكان‭ ‬شقيقي‭ ‬الأصغر‭ ‬محجوب‭ ‬مثلي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬بيتنا‭ ‬يتعرض‭ ‬لغارات‭ ‬تفتيشية‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ولما‭ ‬جاءتني‭ ‬تأشيرة‭ ‬السفر‭ ‬وتذكرة‭ ‬الطائرة‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬أرامكو‭ ‬بالسعودية،‭ ‬لم‭ ‬أنطط‭ ‬من‭ ‬الفرح‭ ‬بل‭ ‬بكيت‭ ‬بحرقة‭ ‬لأنني‭ ‬سأغادر‭ ‬وطنا‭ ‬أحب‭ ‬كل‭ ‬شبر‭ ‬فيه‭ ‬وأحب‭ ‬أهله،‭ ‬وأقولها‭ ‬بكل‭ ‬صدق‭: ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬حزينا‭ ‬ولا‭ ‬خائفا‭ ‬يوم‭ ‬قادوني‭ ‬إلى‭ ‬السجن،‭ ‬ولكن‭ ‬وأنا‭ ‬أتوجه‭ ‬نحو‭ ‬الطائرة‭ ‬كنت‭ ‬كمن‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬جنازة‭ ‬جماعية‭ ‬لكل‭ ‬أحبابه‭ ‬ولم‭ ‬أحاول‭ ‬إخفاء‭ ‬دموعي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا