زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
علم ليس في الكتب
نعم، هناك أمور ومعارف لا تقدمها لك المدارس والجامعات، من بينها كيفية التعامل مع الناس الآخرين وكثير من الأشياء من حولك، وكيفية التصرف إزاء مواقف بعينها، بينما مدرسة الحياة تهبك معارف أضعاف أضعاف ما قدمه لك النظام التعليمي.
عندما ركبت الطائرة لأول مرة كانت قد مرت عدة أعوام على هبوط نيل آرمسترونغ على سطح القمر، وكان معظم أهلي وجيراني في بلدتي جزيرة بدين في شمال السودان النوبي لم يفوزوا بركوب أي مركبة تسير بالوقود، بل لم يحظوا بفرصة ركوب دراجة، ولكنهم كانوا قد سبقوا أهل المدن والحواضر في استخدام الطاقة المتجددة، وتحديدا الرياح، فقد كانت المراكب الشراعية هي وسيلة نقل البشر والسلع والبهائم والدواب من منطقة إلى أخرى، وكان «ريِّس» المركب يفهم أشياء لا يعرفها الى يومنا هذا خبراء الرصد الجوي عن حركة الرياح، وكثيرا ما كنا نتوجه نحو أحد تلك المراكب الخشبية للعبور شرقا أو غربا، لنفاجأ بالريس يقول إن مركبه لن يتحرك.. لماذا يا عم الحاج؟ لأن الريح «نَو»، بفتح النون، وشيئا فشيئا صرنا نميز بين الريح النو والريح «الصلاح»، فالنو ريح متقلبة المزاج وتملأ شراع المركب وتسير به إلى الوجهة الخطأ، بينما الريح الصلاح هي التي تملأ الشراع وتدفع المركب إلى الأمام صوب الوجهة المطلوبة. وعندما انتقلت مع العائلة إلى مدينة كوستي في السودان الأوسط (صارت في السودان الجنوبي بعد انفصال الجنوب الأصلي)، انتبهت إلى أن أناسا بسطاء وأميين مع سبق الإصرار والترصد يعرفون على نحو شبه دقيق متى وفي أي ناحية من المنطقة ستهطل الأمطار، وكنت أحيانا أعجب من تكهناتهم - ظهر يوم ما مثلا- بأن المدينة ستشهد أمطارا في أول المساء، فأرفع رأسي إلى السماء ولا أجد سوى سحب متفرقة، يخيل إليك أنك لو عصرتها فلن تخرج منها بأكثر من جالون ماء واحد، وما إن يحل المساء حتى تتراكم سحب متجهمة ترغي وتزبد وترعد، والفلاشات تشتغل وتنزل أمطارا إذا أصابتك نقطة واحدة على رأسك تحسب أنك نلت ضربة شاكوش، وأعني بالشاكوش هنا المطرقة التي تستخدم لأغراض مختلفة أولها دق المسامير، وليس الشاكوش السوداني الذي يعني هجر أحد طرفي علاقة عاطفية للآخر.
وعرفت من أناس بسطاء في الحي، طراطيش معلومات عن السحب الممطرة، فلو كانت السحب «قبلي» اي جنوبية فهي حتما ستأتي بالمطر، ولو قال لك سوداني «القبلي شال» فإنه يقصد إبلاغك أن السحب الممطرة قد تجمعت، ولكن حبي لمادة الجغرافيا جعلني أتفوق أحيانا على جماعة الرصد الجوي «البلدي»، في التكهن ببعض أحوال الطقس، فقد علمونا أنواع السحب المختلفة من بينها cirrus, Stratus, cumulus (معليش درسنا الجغرافيا بالإنجليزية، وسألت غوغل عن أسماء السحب باللغة العربية وقال لي إنها السحاب الملتوي لسحاب الملتوي والفقاري والمتموج والاشعاعي والمُجعّد والمزدوج والمُشِف والمِنوّري)، وأي نوع منها الحامل للمطر، وكنت في الصيف وعندما يشتد الحر في أي مدينة في شهور ابريل ومايو، أقول إن عاصفة ترابية ستجتاح المدينة، وكانت تكهناتي في هذا الصدد عالية الدقة بدرجة أن والدتي رحمها الله -وهي بنت عالم دين مرموق كان أهل بلدتنا يعتقدون أنه من أصحاب الكرامات- كانت تقول عني إنني «فكي»، وتعني «فقير» وكلاهما تحوير لكلمة فقيه، ولكن أهل السودان حملوا تلك الكلمات ما لا تحتمل، فمن يحمل تسمية كتلك يفترض فيه أنه شخصا مبروكا يحل ويربط، ولم يكن من طائل لأشرح لأمي أو لغيرها أن الحر الشديد يتسبب في تمدد الهواء وارتفاعه إلى الأعالي، فيحدث منخفض جوي يجذب الرياح من المناطق الأكثر برودة، وبما أن ثلثي مساحة السودان صحارى رملية فإننا لا نعرف «النسيم» إلا بعد هطول الأمطار وتشبع الأرض بالماء، ومن ثم فكل الأهوية التي تهب علينا تحمل أطنانا من التراب، ونسميها الهبوب، فتتوقف حركة السيارات، لأنك تعجز أحيانا عن رؤية أرنبة أنفك عندما تكون الهبوب قوية وسريعة (دخلت كلمة هبوب السودانية قاموس الأرصاد الجوية الأمريكية كاسم للعاصفة الترابية).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك