العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

علم ليس في الكتب

نعم،‭ ‬هناك‭ ‬أمور‭ ‬ومعارف‭ ‬لا‭ ‬تقدمها‭ ‬لك‭ ‬المدارس‭ ‬والجامعات،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬كيفية‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬الآخرين‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حولك،‭ ‬وكيفية‭ ‬التصرف‭ ‬إزاء‭ ‬مواقف‭ ‬بعينها،‭ ‬بينما‭ ‬مدرسة‭ ‬الحياة‭ ‬تهبك‭ ‬معارف‭ ‬أضعاف‭ ‬أضعاف‭ ‬ما‭ ‬قدمه‭ ‬لك‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭.‬

عندما‭ ‬ركبت‭ ‬الطائرة‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬مرت‭ ‬عدة‭ ‬أعوام‭ ‬على‭ ‬هبوط‭ ‬نيل‭ ‬آرمسترونغ‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬القمر،‭ ‬وكان‭ ‬معظم‭ ‬أهلي‭ ‬وجيراني‭ ‬في‭ ‬بلدتي‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬النوبي‭ ‬لم‭ ‬يفوزوا‭ ‬بركوب‭ ‬أي‭ ‬مركبة‭ ‬تسير‭ ‬بالوقود،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يحظوا‭ ‬بفرصة‭ ‬ركوب‭ ‬دراجة،‭ ‬ولكنهم‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬سبقوا‭ ‬أهل‭ ‬المدن‭ ‬والحواضر‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬الطاقة‭ ‬المتجددة،‭ ‬وتحديدا‭ ‬الرياح،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬المراكب‭ ‬الشراعية‭ ‬هي‭ ‬وسيلة‭ ‬نقل‭ ‬البشر‭ ‬والسلع‭ ‬والبهائم‭ ‬والدواب‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬وكان‭ ‬‮«‬ريِّس‮»‬‭ ‬المركب‭ ‬يفهم‭ ‬أشياء‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬الى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬خبراء‭ ‬الرصد‭ ‬الجوي‭ ‬عن‭ ‬حركة‭ ‬الرياح،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬نتوجه‭ ‬نحو‭ ‬أحد‭ ‬تلك‭ ‬المراكب‭ ‬الخشبية‭ ‬للعبور‭ ‬شرقا‭ ‬أو‭ ‬غربا،‭ ‬لنفاجأ‭ ‬بالريس‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬مركبه‭ ‬لن‭ ‬يتحرك‭.. ‬لماذا‭ ‬يا‭ ‬عم‭ ‬الحاج؟‭ ‬لأن‭ ‬الريح‭ ‬‮«‬نَو‮»‬،‭ ‬بفتح‭ ‬النون،‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬صرنا‭ ‬نميز‭ ‬بين‭ ‬الريح‭ ‬النو‭ ‬والريح‭ ‬‮«‬الصلاح‮»‬،‭ ‬فالنو‭ ‬ريح‭ ‬متقلبة‭ ‬المزاج‭ ‬وتملأ‭ ‬شراع‭ ‬المركب‭ ‬وتسير‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الوجهة‭ ‬الخطأ،‭ ‬بينما‭ ‬الريح‭ ‬الصلاح‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬الشراع‭ ‬وتدفع‭ ‬المركب‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬صوب‭ ‬الوجهة‭ ‬المطلوبة‭. ‬وعندما‭ ‬انتقلت‭ ‬مع‭ ‬العائلة‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬كوستي‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الأوسط‭ (‬صارت‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الجنوبي‭ ‬بعد‭ ‬انفصال‭ ‬الجنوب‭ ‬الأصلي‭)‬،‭ ‬انتبهت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أناسا‭ ‬بسطاء‭ ‬وأميين‭ ‬مع‭ ‬سبق‭ ‬الإصرار‭ ‬والترصد‭ ‬يعرفون‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬شبه‭ ‬دقيق‭ ‬متى‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬ناحية‭ ‬من‭ ‬المنطقة‭ ‬ستهطل‭ ‬الأمطار،‭ ‬وكنت‭ ‬أحيانا‭ ‬أعجب‭ ‬من‭ ‬تكهناتهم‭ - ‬ظهر‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬مثلا‭- ‬بأن‭ ‬المدينة‭ ‬ستشهد‭ ‬أمطارا‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬المساء،‭ ‬فأرفع‭ ‬رأسي‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬ولا‭ ‬أجد‭ ‬سوى‭ ‬سحب‭ ‬متفرقة،‭ ‬يخيل‭ ‬إليك‭ ‬أنك‭ ‬لو‭ ‬عصرتها‭ ‬فلن‭ ‬تخرج‭ ‬منها‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬جالون‭ ‬ماء‭ ‬واحد،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يحل‭ ‬المساء‭ ‬حتى‭ ‬تتراكم‭ ‬سحب‭ ‬متجهمة‭ ‬ترغي‭ ‬وتزبد‭ ‬وترعد،‭ ‬والفلاشات‭ ‬تشتغل‭ ‬وتنزل‭ ‬أمطارا‭ ‬إذا‭ ‬أصابتك‭ ‬نقطة‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬رأسك‭ ‬تحسب‭ ‬أنك‭ ‬نلت‭ ‬ضربة‭ ‬شاكوش،‭ ‬وأعني‭ ‬بالشاكوش‭ ‬هنا‭ ‬المطرقة‭ ‬التي‭ ‬تستخدم‭ ‬لأغراض‭ ‬مختلفة‭ ‬أولها‭ ‬دق‭ ‬المسامير،‭ ‬وليس‭ ‬الشاكوش‭ ‬السوداني‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬هجر‭ ‬أحد‭ ‬طرفي‭ ‬علاقة‭ ‬عاطفية‭ ‬للآخر‭.‬

وعرفت‭ ‬من‭ ‬أناس‭ ‬بسطاء‭ ‬في‭ ‬الحي،‭ ‬طراطيش‭ ‬معلومات‭ ‬عن‭ ‬السحب‭ ‬الممطرة،‭ ‬فلو‭ ‬كانت‭ ‬السحب‭ ‬‮«‬قبلي‮»‬‭ ‬اي‭ ‬جنوبية‭ ‬فهي‭ ‬حتما‭ ‬ستأتي‭ ‬بالمطر،‭ ‬ولو‭ ‬قال‭ ‬لك‭ ‬سوداني‭ ‬‮«‬القبلي‭ ‬شال‮»‬‭ ‬فإنه‭ ‬يقصد‭ ‬إبلاغك‭ ‬أن‭ ‬السحب‭ ‬الممطرة‭ ‬قد‭ ‬تجمعت،‭ ‬ولكن‭ ‬حبي‭ ‬لمادة‭ ‬الجغرافيا‭ ‬جعلني‭ ‬أتفوق‭ ‬أحيانا‭ ‬على‭ ‬جماعة‭ ‬الرصد‭ ‬الجوي‭ ‬‮«‬البلدي‮»‬،‭ ‬في‭ ‬التكهن‭ ‬ببعض‭ ‬أحوال‭ ‬الطقس،‭ ‬فقد‭ ‬علمونا‭ ‬أنواع‭ ‬السحب‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬cirrus, Stratus, cumulus ‭(‬معليش‭ ‬درسنا‭ ‬الجغرافيا‭ ‬بالإنجليزية،‭ ‬وسألت‭ ‬غوغل‭ ‬عن‭ ‬أسماء‭ ‬السحب‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬إنها‭ ‬السحاب‭ ‬الملتوي‭ ‬لسحاب‭ ‬الملتوي‭ ‬والفقاري‭ ‬والمتموج‭ ‬والاشعاعي‭ ‬والمُجعّد‭ ‬والمزدوج‭ ‬والمُشِف‭ ‬والمِنوّري‭)‬،‭ ‬وأي‭ ‬نوع‭ ‬منها‭ ‬الحامل‭ ‬للمطر،‭ ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬الصيف‭ ‬وعندما‭ ‬يشتد‭ ‬الحر‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬شهور‭ ‬ابريل‭ ‬ومايو،‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬عاصفة‭ ‬ترابية‭ ‬ستجتاح‭ ‬المدينة،‭ ‬وكانت‭ ‬تكهناتي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬عالية‭ ‬الدقة‭ ‬بدرجة‭ ‬أن‭ ‬والدتي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ -‬وهي‭ ‬بنت‭ ‬عالم‭ ‬دين‭ ‬مرموق‭ ‬كان‭ ‬أهل‭ ‬بلدتنا‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الكرامات‭- ‬كانت‭ ‬تقول‭ ‬عني‭ ‬إنني‭ ‬‮«‬فكي‮»‬،‭ ‬وتعني‭ ‬‮«‬فقير‮»‬‭ ‬وكلاهما‭ ‬تحوير‭ ‬لكلمة‭ ‬فقيه،‭ ‬ولكن‭ ‬أهل‭ ‬السودان‭ ‬حملوا‭ ‬تلك‭ ‬الكلمات‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تحتمل،‭ ‬فمن‭ ‬يحمل‭ ‬تسمية‭ ‬كتلك‭ ‬يفترض‭ ‬فيه‭ ‬أنه‭ ‬شخصا‭ ‬مبروكا‭ ‬يحل‭ ‬ويربط،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬طائل‭ ‬لأشرح‭ ‬لأمي‭ ‬أو‭ ‬لغيرها‭ ‬أن‭ ‬الحر‭ ‬الشديد‭ ‬يتسبب‭ ‬في‭ ‬تمدد‭ ‬الهواء‭ ‬وارتفاعه‭ ‬إلى‭ ‬الأعالي،‭ ‬فيحدث‭ ‬منخفض‭ ‬جوي‭ ‬يجذب‭ ‬الرياح‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬الأكثر‭ ‬برودة،‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬ثلثي‭ ‬مساحة‭ ‬السودان‭ ‬صحارى‭ ‬رملية‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬‮«‬النسيم‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬هطول‭ ‬الأمطار‭ ‬وتشبع‭ ‬الأرض‭ ‬بالماء،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فكل‭ ‬الأهوية‭ ‬التي‭ ‬تهب‭ ‬علينا‭ ‬تحمل‭ ‬أطنانا‭ ‬من‭ ‬التراب،‭ ‬ونسميها‭ ‬الهبوب،‭ ‬فتتوقف‭ ‬حركة‭ ‬السيارات،‭ ‬لأنك‭ ‬تعجز‭ ‬أحيانا‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬أرنبة‭ ‬أنفك‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬الهبوب‭ ‬قوية‭ ‬وسريعة‭ (‬دخلت‭ ‬كلمة‭ ‬هبوب‭ ‬السودانية‭ ‬قاموس‭ ‬الأرصاد‭ ‬الجوية‭ ‬الأمريكية‭ ‬كاسم‭ ‬للعاصفة‭ ‬الترابية‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا