زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وقفة أخرى على الأطلال
وقفت على مدى الأيام الثلاثة الماضية على أطلال عصر ليس بالبعيد عشت فيه طالب علم ثم طالب رزق، ثم تباهيت بقدرتي المزعومة على مواكبة العصر، مستشهدا باستخدامي للكمبيوتر والهاتف الذكي، ووقفت لبعض الوقت عند تجربتي الصحفية، في عصر إعداد المادة المراد نشرها فيما يسمى بالبليتات (مفردها بليت plate الإنجليزية)، فيؤسس ذلك لعلاقة عضوية محسوسة بين الصحفي والجريدة، فصار كل ذلك من قبيل «كان ياما كان»، ولكنني لا أستطيع أن أقول إن زمن الصحافة المطبوعة فات، ومن يتغنى بها مات، فهناك كثيرون أمثالي مازالوا مولعين برائحة الورق، فرغم أنني أقضي أمام الكمبيوتر يوميا ما بين خمس إلى سبع ساعات، إلا أنني لا أميل إلى قراءة النسخة الإلكترونية من أي صحيفة تصدر مطبوعة على الورق، أما إذا كانت الصحيفة أصلا إلكترونية فإنني أطلُّ على مواد معينة فيها في عجالة، ولكن لابد من الاعتراف بأنه ما من صحيفة في الشرق أو الغرب إلا وانخفض توزيعها بنسبة 50% على أقل تقدير مقارنة بما كان عليه قبل عشرين أو خمس عشرة سنة، والانخفاض في توزيع الصحف العربية أمر محزن (ليس لأنه يؤثر في أكل عيشي، فقد واكبت العصر وانتقلت إلى الصحافة التلفزيونية منذ أكثر من خمس وعشرين سنة)، ولكن لأن جيل الشباب لم يعد يقرأ، وأقصد هنا القراءة بمعناها الشمولي، فلا وقت لهذا الجيل لجريدة أو كتاب، بسبب الشات والواتساب واليوتيوب، في عصر سندويتشات الروب، وبالمناسبة فحتى في الدول الغربية المتقدمة صناعيا واقتصاديا وبها حركات ثقافية نشطة، اختفت صحف شهيرة نهائيا بعد أن أغلقت مطابعها، بعد أن ظلت رائجة لأكثر من قرن من الزمان، بسبب تدني التوزيع وندرة الإعلانات، بعد أن خطف الإنترنت ما تبقى من سوق الإعلانات التي سيطر التلفزيون على معظمها.
ولكن بيني وبينكم فإن الكثير من الصحف العربية مملة، إما لأنها حكومية سافرة، أو لأنها منافقة للحكومات، أو لبؤس المحتوى، وتخيل حال شاب عربي، عمره 25 سنة اليوم، ومنذ أن تعلم الكلام، وهو يسمع عن إسرائيل وغزة والضفة الغربية، الكلام نفسه يوما بعد يوم، ثم يدرك أن ذلك الكلام كان يتردد في وسائل الإعلام وفي خطب الزعماء قبل مولده بأربعين سنة بنفس المفردات!! هل من المستغرب أن ينفر ليس فقط من الصحف، بل من وسائل الإعلام العربية عموما، خاصة وأنه يعرف أين يجد الحقائق التي لا تجرؤ الصحف على ذكرها، في أكثر من مائة ألف موقع على الإنترنت، وبالمقابل كان المتعلم من أبناء وبنات جيلي حتى قبل عشرين سنة يحرص على قراءة صحيفتين على الأقل، وما زلت إلى يومنا هذا أقرأ نحو ثلاث صحف يوميا، إلا أن ذلك لا يستغرق مني وقتا طويلا، بل صرت مثل معظم قراء الصحف لا أطالعها إلا بعد الغداء، رغم أن الصحف تصدر في الفجر ليقرأها الناس في الصباح، ولكن حكم القدر والزمن جعل الصحف بلا قيمة كبيرة من الناحية الخبرية، فالهاتف الجوال يستطيع أن يوافيك بالأخبار حتى قبل التلفزيون، وبالتالي صار الناس يقرأون الصحف لمعرفة ما وراء الأخبار، أي دلالاتها، وبالتالي اكتسبت مقالات التحليل والرأي قيمة عالية، وظهر ما يُعرف بصحافة الرأي، ولكن حتى في هذه الناحية هناك صحف عربية كثيرة لديها أجندات اختارتها طوعا أو فُرِضت عليها، والمقالات فيها عِلّة ومملة.
وما من صحافة بلغت الأعالي ثم انهارت كالصحافة السودانية، التي قامت على أكتاف فرسان أشاوس دافعوا عن شرف المهنة والكلمة، وشيئا فشيئا صارت الحكومات المتعاقبة تسطو على الصحف أو تتسلل إليها بالقوة الغاشمة أو عبر المرتزقة، ثم جاءت حكومة عمر البشير وصحبه، وابتكرت نظاما للضرائب والجبايات جعل إصدار صحيفة مغامرة وخيمة العواقب، وكان في السودان حتى سقوط تلك الحكومة «شكليا» في عام 2019، ما لا يقل عن عشرين صحيفة يومية، وأجزم بأن 95% من المواطنين لم يسمعوا أو يروا نصف ذلك العدد، وبالتالي لك أن تسأل: كيف كانت تصدر وكيف تدفع رواتب العاملين فيها.. هذه مسألة فيها «إنّ».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك