العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وقفة أخرى على الأطلال

وقفت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الأيام‭ ‬الثلاثة‭ ‬الماضية‭ ‬على‭ ‬أطلال‭ ‬عصر‭ ‬ليس‭ ‬بالبعيد‭ ‬عشت‭ ‬فيه‭ ‬طالب‭ ‬علم‭ ‬ثم‭ ‬طالب‭ ‬رزق،‭ ‬ثم‭ ‬تباهيت‭ ‬بقدرتي‭ ‬المزعومة‭ ‬على‭ ‬مواكبة‭ ‬العصر،‭ ‬مستشهدا‭ ‬باستخدامي‭ ‬للكمبيوتر‭ ‬والهاتف‭ ‬الذكي،‭ ‬ووقفت‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭ ‬عند‭ ‬تجربتي‭ ‬الصحفية،‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬إعداد‭ ‬المادة‭ ‬المراد‭ ‬نشرها‭ ‬فيما‭ ‬يسمى‭ ‬بالبليتات‭ (‬مفردها‭ ‬بليت plate‭ ‬الإنجليزية‭)‬،‭ ‬فيؤسس‭ ‬ذلك‭ ‬لعلاقة‭ ‬عضوية‭ ‬محسوسة‭ ‬بين‭ ‬الصحفي‭ ‬والجريدة،‭ ‬فصار‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬‮«‬كان‭ ‬ياما‭ ‬كان‮»‬،‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬زمن‭ ‬الصحافة‭ ‬المطبوعة‭ ‬فات،‭ ‬ومن‭ ‬يتغنى‭ ‬بها‭ ‬مات،‭ ‬فهناك‭ ‬كثيرون‭ ‬أمثالي‭ ‬مازالوا‭ ‬مولعين‭ ‬برائحة‭ ‬الورق،‭ ‬فرغم‭ ‬أنني‭ ‬أقضي‭ ‬أمام‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬يوميا‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬خمس‭ ‬إلى‭ ‬سبع‭ ‬ساعات،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬النسخة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬صحيفة‭ ‬تصدر‭ ‬مطبوعة‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الصحيفة‭ ‬أصلا‭ ‬إلكترونية‭ ‬فإنني‭ ‬أطلُّ‭ ‬على‭ ‬مواد‭ ‬معينة‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬عجالة،‭ ‬ولكن‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬صحيفة‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬أو‭ ‬الغرب‭ ‬إلا‭ ‬وانخفض‭ ‬توزيعها‭ ‬بنسبة‭ ‬50‭% ‬على‭ ‬أقل‭ ‬تقدير‭ ‬مقارنة‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬أو‭ ‬خمس‭ ‬عشرة‭ ‬سنة،‭ ‬والانخفاض‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬الصحف‭ ‬العربية‭ ‬أمر‭ ‬محزن‭ (‬ليس‭ ‬لأنه‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬أكل‭ ‬عيشي،‭ ‬فقد‭ ‬واكبت‭ ‬العصر‭ ‬وانتقلت‭ ‬إلى‭ ‬الصحافة‭ ‬التلفزيونية‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭  ‬خمس‭ ‬وعشرين‭ ‬سنة‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يقرأ،‭ ‬وأقصد‭ ‬هنا‭ ‬القراءة‭ ‬بمعناها‭ ‬الشمولي،‭ ‬فلا‭ ‬وقت‭ ‬لهذا‭ ‬الجيل‭ ‬لجريدة‭ ‬أو‭ ‬كتاب،‭ ‬بسبب‭ ‬الشات‭ ‬والواتساب‭ ‬واليوتيوب،‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬سندويتشات‭ ‬الروب،‭ ‬وبالمناسبة‭ ‬فحتى‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬المتقدمة‭ ‬صناعيا‭ ‬واقتصاديا‭ ‬وبها‭ ‬حركات‭ ‬ثقافية‭ ‬نشطة،‭ ‬اختفت‭ ‬صحف‭ ‬شهيرة‭ ‬نهائيا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أغلقت‭ ‬مطابعها،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ظلت‭ ‬رائجة‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬بسبب‭ ‬تدني‭ ‬التوزيع‭ ‬وندرة‭ ‬الإعلانات،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خطف‭ ‬الإنترنت‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬سوق‭ ‬الإعلانات‭ ‬التي‭ ‬سيطر‭ ‬التلفزيون‭ ‬على‭ ‬معظمها‭.‬

ولكن‭ ‬بيني‭ ‬وبينكم‭ ‬فإن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الصحف‭ ‬العربية‭ ‬مملة،‭ ‬إما‭ ‬لأنها‭ ‬حكومية‭ ‬سافرة،‭ ‬أو‭ ‬لأنها‭ ‬منافقة‭ ‬للحكومات،‭ ‬أو‭ ‬لبؤس‭ ‬المحتوى،‭ ‬وتخيل‭ ‬حال‭ ‬شاب‭ ‬عربي،‭ ‬عمره‭ ‬25‭ ‬سنة‭ ‬اليوم،‭ ‬ومنذ‭ ‬أن‭ ‬تعلم‭ ‬الكلام،‭ ‬وهو‭ ‬يسمع‭ ‬عن‭ ‬إسرائيل‭ ‬وغزة‭ ‬والضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬الكلام‭ ‬نفسه‭ ‬يوما‭ ‬بعد‭ ‬يوم،‭ ‬ثم‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الكلام‭ ‬كان‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬وفي‭ ‬خطب‭ ‬الزعماء‭ ‬قبل‭ ‬مولده‭ ‬بأربعين‭ ‬سنة‭ ‬بنفس‭ ‬المفردات‭!! ‬هل‭ ‬من‭ ‬المستغرب‭ ‬أن‭ ‬ينفر‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬الصحف،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬العربية‭ ‬عموما،‭ ‬خاصة‭ ‬وأنه‭ ‬يعرف‭ ‬أين‭ ‬يجد‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تجرؤ‭ ‬الصحف‭ ‬على‭ ‬ذكرها،‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مائة‭ ‬ألف‭ ‬موقع‭ ‬على‭ ‬الإنترنت،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬كان‭ ‬المتعلم‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬جيلي‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬صحيفتين‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬أقرأ‭ ‬نحو‭ ‬ثلاث‭ ‬صحف‭ ‬يوميا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يستغرق‭ ‬مني‭ ‬وقتا‭ ‬طويلا،‭ ‬بل‭ ‬صرت‭ ‬مثل‭ ‬معظم‭ ‬قراء‭ ‬الصحف‭ ‬لا‭ ‬أطالعها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬الغداء،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الصحف‭ ‬تصدر‭ ‬في‭ ‬الفجر‭ ‬ليقرأها‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الصباح،‭ ‬ولكن‭ ‬حكم‭ ‬القدر‭ ‬والزمن‭ ‬جعل‭ ‬الصحف‭ ‬بلا‭ ‬قيمة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الخبرية،‭ ‬فالهاتف‭ ‬الجوال‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يوافيك‭ ‬بالأخبار‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬التلفزيون،‭ ‬وبالتالي‭ ‬صار‭ ‬الناس‭ ‬يقرأون‭ ‬الصحف‭ ‬لمعرفة‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الأخبار،‭ ‬أي‭ ‬دلالاتها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬اكتسبت‭ ‬مقالات‭ ‬التحليل‭ ‬والرأي‭ ‬قيمة‭ ‬عالية،‭ ‬وظهر‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بصحافة‭ ‬الرأي،‭ ‬ولكن‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الناحية‭ ‬هناك‭ ‬صحف‭ ‬عربية‭ ‬كثيرة‭ ‬لديها‭ ‬أجندات‭ ‬اختارتها‭ ‬طوعا‭ ‬أو‭ ‬فُرِضت‭ ‬عليها،‭ ‬والمقالات‭ ‬فيها‭ ‬عِلّة‭ ‬ومملة‭.‬

وما‭ ‬من‭ ‬صحافة‭ ‬بلغت‭ ‬الأعالي‭ ‬ثم‭ ‬انهارت‭ ‬كالصحافة‭ ‬السودانية،‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬أكتاف‭ ‬فرسان‭ ‬أشاوس‭ ‬دافعوا‭ ‬عن‭ ‬شرف‭ ‬المهنة‭ ‬والكلمة،‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬صارت‭ ‬الحكومات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬تسطو‭ ‬على‭ ‬الصحف‭ ‬أو‭ ‬تتسلل‭ ‬إليها‭ ‬بالقوة‭ ‬الغاشمة‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬المرتزقة،‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬حكومة‭ ‬عمر‭ ‬البشير‭ ‬وصحبه،‭ ‬وابتكرت‭ ‬نظاما‭ ‬للضرائب‭ ‬والجبايات‭ ‬جعل‭ ‬إصدار‭ ‬صحيفة‭ ‬مغامرة‭ ‬وخيمة‭ ‬العواقب،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬حتى‭ ‬سقوط‭ ‬تلك‭ ‬الحكومة‭ ‬‮«‬شكليا‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2019،‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬عشرين‭ ‬صحيفة‭ ‬يومية،‭ ‬وأجزم‭ ‬بأن‭ ‬95‭% ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬لم‭ ‬يسمعوا‭ ‬أو‭ ‬يروا‭ ‬نصف‭ ‬ذلك‭ ‬العدد،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تسأل‭: ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬وكيف‭ ‬تدفع‭ ‬رواتب‭ ‬العاملين‭ ‬فيها‭.. ‬هذه‭ ‬مسألة‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬إنّ‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا