العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ذكريات الصعود الجسماني والمعنوي

على‭ ‬خوفي‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬المرتفعة،‭ ‬فقد‭ ‬استجمعت‭ ‬شجاعتي‭ ‬ذات‭ ‬عام،‭ ‬ووقفت‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬إيفرست‭ ‬الهندسية،‭ (‬وليس‭ ‬الهندية‭ ‬بل‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬هندسة‭)‬،‭ ‬اي‭ ‬أعلى‭ ‬مبنى‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬برج‭ ‬خليفة‭ ‬في‭ ‬دبي،‭ ‬وجاءني‭ ‬كذا‭ ‬فلبيني‭ ‬عارضا‭ ‬علي‭ ‬التقاط‭ ‬صورة‭ ‬أحتفظ‭ ‬بها‭ ‬كذكرى،‭ ‬فصرفتهم‭ ‬بكل‭ ‬حزم‭ ‬لأن‭ ‬البرج‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬انجازاتي،‭ ‬ولا‭ ‬أملك‭ ‬ولا‭ ‬لوح‭ ‬بورسلين‭ ‬أو‭ ‬رخام‭ ‬واحد‭ ‬على‭ ‬أرضيته‭ ‬فيه،‭ ‬فقيمة‭ ‬التجربة‭ ‬أمر‭ ‬“جواني”،‭ ‬وبيني‭ ‬وبينكم‭ ‬فقد‭ ‬تفاديت‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬اللوح‭ ‬الزجاجي‭ ‬الذي‭ ‬تستطيع‭ ‬عبره‭ ‬رؤية‭ ‬بانوراما‭ ‬دبي‭ ‬بأكملها،‭ ‬فوقفت‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬مسافة‭ ‬آمنة‭ ‬من‭ ‬لوح‭ ‬الزجاج،‭ ‬ورأيت‭ ‬عمارات‭ ‬شاهقة‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬أكشاك‭ ‬تبيع‭ ‬الشاي‭ ‬الكرك،‭ ‬ومصابيح‭ ‬صغيرة‭ ‬ترسل‭ ‬وميضا‭ ‬خافتا،‭ ‬وفهمت‭ ‬أنها‭ ‬السيارات،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬أخشى‭ ‬أن‭ ‬أتكئ‭ ‬على‭ ‬الزجاج‭ ‬فينهار‭ ‬لسبب‭ ‬أو‭ ‬لآخر‭ ‬وأروح‭ ‬‮«‬شمار‭ ‬في‭ ‬مرقة‮»‬‭ ‬كما‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬عن‭ ‬الضياع‭ ‬الكامل،‭ ‬لأن‭ ‬الشمار‭ (‬الكَمُّون‭) ‬بهار‭ ‬يختفي‭ ‬بمجرد‭ ‬إضافته‭ ‬إلى‭ ‬الطبخة‭.‬

كنت‭ ‬قبلها‭ ‬بنحو‭ ‬ببضع‭ ‬سنة‭ ‬قد‭ ‬صعدت‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬بناية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وقتها‭ (‬برج‭ ‬بتروناس‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الماليزية‭ ‬كوالالمبور‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬الحالتين‭ ‬همهمت‭ ‬‮«‬سبحان‭ ‬الذي‭ ‬سخر‭ ‬لنا‭ ‬هذا‭....‬‮»‬،‭ ‬لأنني‭ ‬تذكرت‭ ‬فرحتي‭ ‬بالالتحاق‭ ‬بمدرسة‭ ‬ثانوية‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬طابقين،‭ ‬وكنت‭ ‬أستمتع‭ ‬بالصعود‭ ‬والنزول‭ ‬بالسلم‭/ ‬الدرج‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬وتذكرت‭ ‬كيف‭ ‬كنا‭ ‬نتسلل‭ ‬الى‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭ ‬لتدخين‭ ‬تبغ‭ ‬ركيك،‭ ‬وكيف‭ ‬قفشنا‭ ‬ناظر‭ ‬المدرسة‭ ‬وأرغمنا‭ ‬على‭ ‬كنس‭ ‬المكان‭ ‬بأكمله‭ ‬ثم‭ ‬مسحه‭ ‬بأقمشة‭ ‬قديمة‭ ‬مبتلة‭! ‬ثم‭ ‬تفوقت‭ ‬على‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬وزملائي‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الدراسة‭ ‬بأن‭ ‬نلت‭ ‬وظيفة‭ ‬في‭ ‬أقدم‭ ‬بناية‭ ‬متعددة‭ ‬الطبقات‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ (‬اسمها‭ ‬عمارة‭ ‬أبو‭ ‬العلا‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬مكتبي‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الرابع‭ ‬ويطل‭ ‬على‭ ‬القصر‭ ‬الجمهوري،‭ ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬أنني‭ ‬استخدمت‭ ‬المصعد‭ ‬الكهربائي‭ (‬الأسانسير‭) ‬للوصول‭ ‬الى‭ ‬مكتبي‭. ‬صحيح‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬قط‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬الشجاعة‭ ‬لأدخل‭ ‬ذلك‭ ‬الأسانسير‭ ‬صعودا‭ ‬أو‭ ‬هبوطا‭ ‬بمفردي،‭ ‬فإذا‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬كفيلا‭ ‬يصطحبني‭ ‬معه،‭ ‬كنت‭ ‬استخدم‭ ‬الدرج‭ ‬الذي‭ ‬نسميه‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬السِلِّم‮»‬‭.‬

وكلما‭ ‬مررت‭ ‬بتجربة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬انجازات‭ ‬وابتكارات‭ ‬العلم‭ ‬الحديث،‭ ‬تلكزني‭ ‬ذاكرتي‭ ‬بعنف‭ ‬وتصيح‭ ‬في‭ ‬أذني‭: ‬لا‭ ‬تنس‭ ‬حالك‭ ‬‮«‬وتحسب‭ ‬روحك‭ ‬راقيا‭ ‬ومتحضرا‭ ‬وابن‭ ‬مدن‭. ‬خلاص‭ ‬نسيت‭ ‬بيتكم‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬أمك‭ ‬تربط‭ ‬المعزة‭ ‬الحامل‭ ‬في‭ ‬شهرها‭ ‬الأخير‭ ‬على‭ ‬رجل‭ ‬سريرها‭ ‬الخشبي‭ ‬لتهب‭ ‬من‭ ‬نومها‭ ‬وتوقظكم‭ ‬جميعا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬توجعت‭ ‬المعزة‭ ‬وحانت‭ ‬ساعة‭ ‬الولادة؟‭ ‬هل‭ ‬نسيت‭ ‬أنك‭ ‬مارست‭ ‬توليد‭ ‬كذا‭ ‬معزة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مساعدة‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬ترعاها؟‮»‬‭ ‬لا‭ ‬لم‭ ‬أنس‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬أنس‭ ‬كيف‭ ‬كنت‭ ‬أفرح‭ ‬بولادة‭ ‬كل‭ ‬معزة،‭ ‬لأننا‭ ‬كنا‭ ‬نقوم‭ ‬بحلب‭ ‬لبن‭ ‬الأم‭ ‬فور‭ ‬هبوط‭ ‬البيبي،‭ ‬فنعصر‭ ‬ضرعها‭ ‬لينتج‭ ‬سائلا‭ ‬سميكا‭ ‬يشبه‭ ‬الصديد،‭ ‬وعندما‭ ‬تغليه‭ ‬على‭ ‬النار‭ ‬يصبح‭ ‬شيئا‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬اللِّبا‮»‬،‭ (‬الكلمة‭ ‬فصيحة‭ ‬وتكتب‭ ‬اللباء‭ ‬واللبأ‭) ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬كتل‭ ‬تكتسب‭ ‬بياضا‭ ‬ناصعا‭ ‬ولها‭ ‬طعم‭ ‬لذيذ‭ ‬للغاية،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تعلمنا‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬وصرنا‭ ‬نفهم‭ ‬طراطيش‭ ‬معلومات‭ ‬عن‭ ‬الولادة‭ ‬والرضاع،‭ ‬عرفت‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬أنانيين،‭ ‬ونحرم‭ ‬السخلة‭ (‬بيبي‭ ‬المعزة‭) ‬من‭ ‬أهم‭ ‬عنصر‭ ‬غذائي‭ ‬لنموها‭ ‬معافاة،‭ ‬وفهمنا‭ ‬لماذا‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬أن‭ ‬يرضع‭ ‬الطفل‭ ‬الوليد‭ ‬من‭ ‬ثدي‭ ‬أمه‭ ‬منذ‭ ‬ساعاته‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬لأن‭ ‬لبن‭ ‬الأم‭ ‬الذي‭ ‬تشكل‭ ‬في‭ ‬الأشهر‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬الحمل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يعزز‭ ‬نظام‭ ‬المناعة‭ ‬للرضيع،‭ ‬نعم،‭ ‬وأتذكر‭ ‬إذا‭ ‬لحافي‭ ‬جلد‭ ‬شاة‭ ‬وإذ‭ ‬نعلاي‭ ‬من‭ ‬قماش‭ ‬سميك‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬شركة‭ ‬باتا،‭ ‬بل‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬أمي‭ ‬كانت‭ ‬تغسل‭ ‬جزمتي‭ ‬كل‭ ‬بضعة‭ ‬أيام‭ ‬حتى‭ ‬تزيل‭ ‬عنها‭ ‬البقع‭ ‬والروائح‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أفظع‭ ‬من‭ ‬رائحة‭ ‬الفسيخ‭ ‬منتهي‭ ‬الصلاحية،‭ ‬ولكن‭ ‬ولأنني‭ ‬ابن‭ ‬آدم‭ ‬فإنني‭ ‬‮«‬مفتري‮»‬،‭ ‬وأتمنى‭ ‬أن‭ ‬يمد‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أيامي‭ ‬لأتعامل‭ ‬مع‭ ‬مخترعات‭ ‬العصر‭ ‬كلها،‭ ‬وأهمها‭ ‬ركوب‭ ‬طائرة‭ ‬إيرباص‭ ‬الجديدة،‭ ‬أم‭ ‬طابقين‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭ ‬وأحس‭ ‬بأنني‭ ‬‮«‬فوق‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا