زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
شتان ما بين العامية والفصحى
عطفا على مقالي ليوم أمس، الذي قلت فيه إن العامية لا يمكن ان تقوم مقام الفصحى في توصيل «المعلومات» على نحو دقيق، أقول إن ذلك لا يعني التبرؤ التام من العامية، فالتواصل اليومي بين الملايين يتم بالعامية لأنها سهلة وخالية من القيود النحوية والمفردات الحوشيَّة، وستظل العامية لغة الأنس والتفاهم بين الناس، ولكن يستحيل أن تكون أداة مجدية لتوصيل المعارف والعلوم، بل إن العامية قاصر حتى في التعبير الدقيق والصحيح عن أمور عادية في الحياة اليومية، لأنها تميل إلى تبسيط حتى ما هو بسيط أصلا، وقد يكون ذلك على حساب المعنى المراد توصيله، ولأنها، بعكس الفصحى، تفتقر إلى فرسان يصوّبون الخطأ ويردون المفردات إلى أصولها وجذورها.
وفي تبسيط العامية لما هو بسيط أصلا انظر الى اللف والدوران فيما يتعلق بوصف وذكر الذات الإلهية: يا أبو خيمة زرقا!! هذه ربما تقابل القول الفصيح: يا فاطر السماوات والأرض، ولكن التبسيط العامي للقبة السماوية، من باب ابتكار حيل بلاغية، يجعل من السماء خيمة زرقاء ويتجاهل قاعدة الخيمة التي هي الأرض، وعندنا في السودان أستحلفك «بالذي لا نام ولا أكل الطعام»، ولكن أليس من حقك أن تحسب ان المقصود بالعبارة شخص عابد، زاهد في الطعام كثير القيام بالليل؛ وانظر هذا القسم عند المصري: والنبي واللي نبّ النبي نبي؛ من حق المصري أن يشتق من جذر كلمة النبوة فعلا هو «نبّ» ويعني به من بعث النبي نبيا، أي أنه قسم بالله به بعض الالتواء، ولا أعني بذلك عدم جواز القسم بالنبي وحسب، بل اللف والدوران، فبدلا من القسم الصريح بالله، صار المراد قسما بمن بعث النبي نبيا، ولأن العامية المصرية هي الأكثر شيوعا في العالم العربي -بسبب ريادة الأفلام السينمائية والتلفزيونية المصرية- يتم تداول بعض عباراتها المسكوكة او ما يسمى بالكليشيهات من شاكلة «منين يا حسرة»، و«جات الحزينة تفرح»، و«تحت السواهي دواهي»؛ ولأن العامية المصرية كذلك، فسأعرض هنا جانبا من حِيَلِها البلاغية التي لا سبيل لإدراك مراميها إلا بمعايشة ومخالطة من يتداولون بعض الكليشيهات المتعلقة بأمور حياتية: فـ«فلان بعافية» تعني بالمصري أنه يفتقر الى العافية، بينما فلان صحته كويسة تعني أن حالته الصحية ليست كويسة لأنه يعاني من البدانة، وفلان عنده عين حسنة، تعني أن تلك العين بها إصابة «دائمة»، أقول هذا وأنا مدرك لحقيقة أن المزاج المصري الشعبي ينفر من الكلام «الوحش/ الشين»، ولهذا يقول المصري عن شخص مصاب بارتفاع درجة حرارة جسمه أنه «عنده سخونية» حتى لو تجاوزت تلك السخونية سقف الأربعين درجة، ولكن الشاهد عندي هنا هو أن العامية أو المزاج العامي ليس ميالا للدقة في التعبير وتوصيل المعاني. أما إذا أردت تبيان العجز التام للعامية في توصيل العلوم والمعارف على نحو دقيق، فعليك ان تتخيل التطويل والمط الذي يلجأ اليه المدرس لتلخيص نظرية فيثاغورس عن المثلث قائم الزاوية، والقائلة بأن مربع طول وتر ذلك المثلث يساوي مجموع مربعي طولي الضلعين الآخرين.
وكي تلقم دعاة تدريس المواد الأكاديمية في هذا البلد العربي أو ذاك باللهجات العامية حجرا، اسألهم أن يلخصوا قانون الطفو لأرخميدس في بضع كلمات كما هو الحال مع الفصحى: الجسم المغمور كلياً أو جزئياً في سائل لا يذوب فيه ولا يتفاعل معه؛ فإن السائل يدفع الجسم بقوة (قوة الطفو)، وهذه القوة تساوي وزن السائل الذي يزيحه الجسم عند غمره.
وأعود وأقول إن العامية ستبقى ما بقي بشر ينطقون، بل ستبقى قريبة من الوجدان العام أكثر من الفصحى، بدليل ان الشعر العامي/ الشعبي/ النبطي وخاصة المُغَنّى منه أكثر شيوعا في زماننا هذا من الشعر الفصيح، ولكن أن تصبح أداة وقناة للعلم والتعليم فهذه فيها قولان ليسا في صالحها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك