زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
العربية دائنة ومدينة
هناك اليوم جيل من الشباب العربي يحسب ان الرطانة بلغة أوروبية، وخاصة الإنجليزية يمنح الشخص عضوية قبيلة المثقفين، بل إن جهات كثيرة تجعل غير المُلِمّ بالإنجليزية غير صالح للعمل لديها، ولو كان ماهرا وحاذقا في مجال العمل المقصود. ومعلوم أن الانترنت، وقوة الإعلام الأمريكي المرئي والأثيري، تضافرا لجعل اللغة الإنجليزية مرغوبة في كافة القارات، وعندما يكون الانسان العربي ثنائي اللغة أي يجيد مثلا العربية والإنجليزية يصبح مفهوما تداخل المفردات من اللغتين في كلامه بين الحين والحين، ولكن لماذا التنازل والطأطأة أمام الإنجليزية بدرجة ان يستخدم العربي مفردات إنجليزية في وجود ما يقابلها في العربية؟ هل هي عقدة تفوق الرجل الأبيض؟ وهل يحدث هذا من منطلق أنه طالما كانت للرجل الأبيض الريادة في غزو الفضاء وصنع الهواتف الذكية، فلا بد أن مفردات لغته أيضا باهرة واستخدام مفرداتها ينم عن ذكاء المتكلم وارتياده فضاءات المعرفة؟
كما قلت في مقالي ليوم أمس فإن جميع اللغات الحية تؤثر في غيرها وتتأثر بها، وما لم تفعل ذلك فلن تُكتب لها «الحياة»، واللغات تتقوقع عندما لا يكون للناطقين بها منتوج ثقافي حضاري، أو قدرة أو رغبة في التفاعل مع العالم الخارجي، ولا يضير أو يعيب لغة أن تستعير مفردات من لغات أخرى حية، فقد نهضت البشرية على تبادل المنافع والمعارف، وأقوى ما يميز الكائن البشري عن الكائنات الحية الأخرى ليس كونه «ناطقا»، بل هو استعداده وقدرته على التفاعل والتواصل مع بني جنسه، ولا يعيب العرب والعربية في شيء ان يتبنّوا مفردات مثل كيك وآيس كريم، وجاكيت واتيكيت وكرواسان وصالون وفيلم وسينما، ولكن البأس كل البأس هو ان يقول العربي ميرسي بدلا من شكرا، وكاش بدلا من نقدا، وموديل بدلا من طراز وكورس بدلا من دورة وبوليس بدلا من شرطة وبرافو بدلا من أحسنت، ولوكيشن بدلا من موقع، ويتبادل التحية بهاي وباي.
الجائحة التي تتعرض لها اللغة العربية بدخول أجسام غريبة في تركيباتها منشؤها مركب نقص بعض أشباه المتعلمين الميالين الى حشو وتطعيم الكلام بمفردات إنجليزية او فرنسية عند تبادل الحديث الشفاهي في مواضيع ظلت مطروقة عبر القرون، لأنها تتعلق بأبسط أمور الحياة اليومية، وإذا كان من المؤكد ان آلاف الكلمات العربية اندثرت حتى من القواميس خلال وعبر قرون الانحطاط الثقافي والمعرفي، وأن اللغة العربية منذ فجرها ظلت تستعير وتعير المفردات للغات الأخرى، فلا عذر للناطقين بها لاستعارة مفردات لغة الحديث اليومي من ألسنة الغير.
وتتعالى بين الحين أصوات في هذا البلد أو ذاك في العالم العربي، مطالبةً باستخدام اللغة العامية في البيئات الأكاديمية والإعلامية، وهم بهذا يعتبرون اللغة العربية الفصحى عاجزة عن استيعاب «لغة العصر»، وأذكر انني كتبت هنا في أخبار الخليج قبل نحو سنة أو أكثر مقالا أستنكر فيه الدعوات لإعلاء شأن اللغات العامية على حساب الفصحى، ونقلت صحيفة الكترونية ذلك المقال مع مقدمة من عندها تفيد بأن كاتب المقال (شخصي) يقول ان اللغة العامية مطيّة الجهلاء، وإن من يستخدمونها للتواصل عبر وسائل الإعلام التقليدية إنما يفعلون ذلك لقصور في أدواتهم ولضعف حصيلتهم المعرفية، وتبارى كثيرون -من بينهم إعلاميون- لوصفي بالاستعلاء عن غير جدارة، بينما كل ما هناك هو أنني قلت وسأظل أقول إن اللغات العامية «قاصر»، ولكن دون ان يعني ذلك ان من يتواصلون بها «قُصَّر» بأي معنى أو مستوى.
وغدا بحول الله أواصل «مرافعة» مناصرة الفصحى من دون أن يعني ذلك انني أطالب بإدانة اللهجات العامية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك