زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن أصداف بحر اللغة العربية
أجلّ وأورع ما خرجت به من النظام التعليمي هو عشق اللغتين العربية والانجليزية، وجاء هذا العشق نتاج مكابدة ومجاهدة، فكلتاهما كانت بالنسبة لي لغة غريبة، لأنني نشأت ناطقا باللغة النوبية حيث لا تذكير ولا تأنيث، وحيث لا مكان لحروف كثيرة في العربية وبعض الحروف الإنجليزية، ومن يتعلم لغة جديدة يحس بمتعة الدهشة والاكتشاف وامتلاك الناصية بالتدرج، ثم يدرك ان اللغة، أي لغة، بحر عباب مليء بكل ما هو بهيج. أجاد وصفه الشاعر حافظ إبراهيم:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن / فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
وقد انتبه الشاعر لأمر انصراف كثيرين من العرب الى اللغات الإفرنجية، لإثبات انهم «مواكبون للحضارة»، وقال في ذلك إن مقتل الحضارة العربية يكمن في إهمال العرب للسانهم العربي:
فـيـا ويـحـكـم أبـلـى وتـبـلـى مـحـاسـنـي/ ومنـكـم وإن عـز الدواء أســاتــي
فـلا تـكـلـونــي للزمــن فإننــي / أخــاف عـلـيـكـم أن تـحيــن وفـاتـي
أرى لـرجــال الـغـرب عـزًا ومنـعـة / وكـم عز أقـوام بـعـز لـغـات
أتـوا أهلـهـم بالمـعـجـزات تفننـًا / فيـا لـيـتـكـم تأتـون بالكـلـمـات
أيـطـربـكـم من جـانـب الغـرب نــاعب / يـنـادي بـوادي فـي ربيــع حـيـاتـي؟
عشق الشعر العربي هو الذي أعانني على عشق اللغة العربية، وأذكر انني اطلعت ضمن مقرر اللغة العربية في المرحلة المتوسطة/ الإعدادية على قصيدة لحليم دموس حسبت أنه ينطق فيها بلساني:
لا تلمني في هواها ليس يرضيني سواها
لست وحدي أفتديها كلنا اليوم فداها
نزلت في كل نفس وتمشت في دماها
فبـــها الأُمُ تغنـّـــــــت وبها الوالد فاهـــــــــا
وبها الفن تجلى وبها العلم تباهى
كلما مر زمان زادها مجدا وجاها
لغة القرآن هذي رفع الله لواها
لغة الأجداد هذي رفع الله لواها
فأعيدوا يا بنيها نهضة تحيي رجاها
هي أم الفخر فاحنوا عند ذكراها الجباها
لم يمت شعبٌ تبارى في هواها واصطفاها
هذا اعتزاز شخص «عينه مليانة»، كما نقول في السودان عن ما هو سعيد وفخور بما هو عنده ولا يحس بأنه بحاجة الى ما عند الآخرين.
درست الأدب الإنجليزي عبر العصور وعشقت وليام شكسبير والشعراء الرومانسيين والميتافيزيقيين، ولم أجد بينهم من هو في قامة المتنبي او أبي تمام او البحتري أو أبي فراس الحمداني صاحب مقولة الشعر ديوان العرب، ويعني بذلك أن في الشعر جلاء همّهم وزوال سأمِهِم ومجال فخرهم وموضع فرحهم وأداة تعبيرهم عن الأشواق والأحزان، وهي مقولة حبلى بالمعاني استخدمها العرب القدماء لتدل على الوظيفة المعرفية للشعر لأنه كان خير ما يرافق تلك الحياة ويسجل ما فيها من حراك في حالات السلم والحرب، والحل والترحال، والخير والقحط، واستطاع أن يحفظها وينقلها إلى الأجيال اللاحقة؛ لما يتصف به من سهولة الحفظ، وسرعة التعلق بالوجدان.
أعتزم التوقف طويلا في موضوع الحفاظ على نقاء اللسان العربي من منطلق أنه أداة الاتصال والتواصل الأكثر أهمية بين الناس، فاللغة ماعون ووعاء هوية الناطقين بها، ولا يوجد لأي لغة سادن وحارس مركزي، ولا ينبغي حسبان مجمع اللغة العربية حارسا أوحد للعربية، وياما طرح المجمع مئات الكلمات تعريبا لكلمات شائعة مستوردة من لغات أخرى دون ان تجد الذيوع (ومثال على هذا أن المجمع أسمى السينما دار الخيالة ولم تفارق التسمية أضابير المجمع)، أعني ان الحفاظ على معمار وبنيان وهيكل اللغة العربية مسؤولية جماعية، وكل عربي يغرف من معين لغات أخرى كتابة أو شفاهة في ثنايا الحديث بالعربية، يسهم من حيث يدري او لا يدري في تلغيم لغة أهله، ويكون بهذا خارجا من «مِلَّة» قومه اللغوية وخائنا لها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك