العدد : ١٦٩٧٨ - الاثنين ١٦ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٨ - الاثنين ١٦ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عقوبة بدنية سعرها بالدولار

جُل‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬العولمة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬‮«‬العصمة‮»‬‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬أحوال‭ ‬بلداننا‭ ‬صارت‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬واشنطن،‭ ‬ولهذا‭ ‬يهتم‭ ‬عموم‭ ‬العرب‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬بفواصل‭ ‬الردح‭ ‬بين‭ ‬مرشحي‭ ‬الرئاسة‭ ‬الأمريكية‭ ‬كامالا‭ ‬هاريس‭ ‬ودونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬بينما‭ ‬العولمة‭ ‬وفي‭ ‬أبسط‭ ‬تجلياتها‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬شخصاً‭ ‬من‭ ‬بوركينا‭ ‬فاسو‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقاضي‭ ‬شخصاً‭ ‬من‭ ‬فنزويلا‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬في‭ ‬الدنمارك،‭ ‬وهذا‭ ‬يفتح‭ ‬أمامي‭ ‬باب‭ ‬الثراء‭ ‬المشروع،‭ ‬مقتديا‭ ‬بالسيد‭ ‬بول‭ ‬هوجان‭ ‬الأسترالي‭ ‬الذي‭ ‬رفع‭ ‬دعوى‭ ‬على‭ ‬مدرس‭ ‬التربية‭ ‬الرياضية،‭ ‬الذي‭ ‬ضربه‭ ‬على‭ ‬يده‭ ‬بحزام‭ ‬جدلي‭ ‬قبل‭ ‬17‭ ‬سنة،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬عمره‭ ‬13‭ ‬سنة‭ ‬مما‭ ‬سبب‭ ‬له‭ ‬عقدة‭ ‬نفسية،‭ ‬جعلته‭ ‬عاجزاً‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬يده‭ ‬تلك‭ ‬بكفاءة‭! ‬يعني‭ ‬بعد‭ ‬17‭ ‬سنة‭ ‬اكتشف‭ ‬أن‭ ‬يده‭ ‬غير‭ ‬سليمة‭! ‬وهذا‭ ‬يذكرني‭ ‬بمثل‭ ‬شعبي‭ ‬مصري‭ ‬طريف‭ ‬وبليغ‭ ‬يقول‭: ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬و3‭ (‬تلات‭) ‬أشهر‭ ‬جات‭ ‬المُعزية‭ ‬تشخر‭! ‬والترجمة‭ ‬لذوي‭ ‬الأمخاخ‭ ‬التخينة‭ ‬المصفحة‭ ‬هي‭ ‬ان‭ ‬الإعراب‭ ‬عن‭ ‬الحزن‭ ‬الشديد‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬على‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬سبَّبْ‭ ‬الحزن،‭ ‬واستوجب‭ ‬تقديم‭ ‬العزاء‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الاستهبال‭ ‬المستهجن،‭ ‬ويسري‭ ‬مفعول‭ ‬المثل‭ ‬أعلاه‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الأفراح،‭ ‬فإن‭ ‬يأتيك‭ ‬شخص‭ ‬يصيح‭ ‬بصوت‭ ‬عال‭ ‬مهنئا‭ ‬بقدوم‭ ‬طفلك‭ ‬الأول،‭ ‬وذلك‭ ‬الطفل‭ ‬التحق‭ ‬بالروضة،‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬المعزية‭ ‬المستهبلة‭ ‬التي‭ ‬تشخر‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬كاد‭ ‬أقارب‭ ‬المرحوم‭ ‬ينسون‭ ‬أمره‭.‬

‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬هوجان‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬تعويض‭ ‬قدره‭ ‬مليون‭ ‬وثلاثمائة‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭!‬

ولو‭ ‬نلت‭ ‬تعويضاً‭ ‬قدره‭ ‬5‭ ‬دولارات‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ضربة‭ ‬نلتها‭ ‬في‭ ‬المرحلتين‭ ‬الابتدائية‭ ‬والمتوسطة‭ ‬لصار‭ ‬رصيدي‭ ‬المصرفي‭ ‬يضاهي‭ ‬رصيد‭ ‬بيل‭ ‬غيتس‭! ‬

ومن‭ ‬عجائب‭ ‬الأمور‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬الجلد‭ ‬الذي‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬جدي‭ ‬الشيخ‭ ‬الحاج‭ ‬فرحان،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يدرسنا‭ ‬العلوم‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬يقصد‭ ‬ضربي،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬عادته‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬حجرة‭ ‬الدراسة‭ ‬حاملاً‭ ‬جريدة‭ ‬نخل‭ ‬طويلة،‭ ‬وشاء‭ ‬حظي‭ ‬العاثر‭ ‬أن‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬الصفوف‭ ‬الأمامية‭ ‬لضعف‭ ‬قدرتي‭ ‬على‭ ‬الإبصار،‭ (‬وبسبب‭ ‬ذلك‭ ‬اختار‭ ‬لي‭ ‬مدير‭ ‬المدرسة‭ ‬اسم‭ ‬دلع‭ ‬هو‭ ‬عموش‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬الحاج‭ ‬فرحان‭ ‬إذا‭ ‬سمع‭ ‬إزعاجا‭ ‬في‭ ‬الصفوف‭ ‬الخلفية،‭ ‬هوى‭ ‬بالجريد‭ ‬على‭ ‬الجالسين‭ ‬في‭ ‬الصفوف‭ ‬الأمامية،‭ ‬وإذا‭ ‬أخطأ‭ ‬تلميذ‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬لا‭ ‬تصله‭ ‬الجريدة‭ ‬نال‭ ‬الضربة‭ (‬بالوكالة‭) ‬أحد‭ ‬الجالسين‭ ‬أمامه

ذات‭ ‬مرة‭ ‬زارنا‭ ‬مفتش‭ ‬تعليم‭ ‬إنجليزي،‭ ‬حاملاً‭ ‬معه‭ ‬صناديق‭ ‬من‭ ‬الحلوى‭ (‬عرفنا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات‭ ‬طوال‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬ماكنتوش‭)‬،‭ ‬وفاجأ‭ ‬المفتش‭ ‬جدي‭ ‬بالمصافحة،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬خرج‭ ‬المفتش‭ ‬حتى‭ ‬مسح‭ ‬جدي‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬المصحف،‭ ‬ثم‭ ‬خرج‭ ‬ليغسلها،‭ ‬فمددت‭ ‬يدي‭ ‬إلى‭ ‬علبة‭ ‬الحلوى،‭ ‬التي‭ ‬أدركت‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬الصنف‭ ‬الممتاز،‭ ‬لأن‭ ‬الكلام‭ ‬المكتوب‭ ‬في‭ ‬العلبة‭ ‬كان‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ (‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬قريب‭ ‬كان‭ ‬السودانيون‭ ‬لا‭ ‬يشترون‭ ‬أي‭ ‬سلعة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬‮«‬ميد‭ ‬إن‭ ‬إنجلاند‮»‬‭ ‬أي‭ ‬مصنوعة‭ ‬في‭ ‬إنجلترا،‭ ‬والى‭ ‬يوم‭ ‬الناس‭ ‬هذا‭ ‬فإن‭ ‬معظم‭ ‬السودانيين‭ ‬لا‭ ‬يستخدمون‭ ‬الا‭ ‬معجون‭ ‬سيجنال‭ ‬للأسنان،‭ ‬وصنف‭ ‬السجائر‭ ‬المستورد‭ ‬القابل‭ ‬للتسويق‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬هما‭ ‬روثمانز‭ ‬وبنسون‭ ‬آند‭ ‬هيدجز،‭ ‬بينما‭ ‬المدخنون‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬شعوب‭ ‬المنطقة‭ ‬عملاء‭ ‬للأمريكان‭ ‬ويستخدمون‭ ‬سجائر‭ ‬مالبرا‭ ‬وينطقونها‭ ‬خطأ‭ ‬مارليبورو‭). ‬المهم‭ ‬أنني‭ ‬خمشت‭ ‬كمية‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬الحلوى‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬فعاد‭ ‬جدي‭ ‬الحاج‭ ‬فرحان‭ ‬ووجدني‭ ‬أكاد‭ ‬أختنق‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حشرت‭ ‬نحو‭ ‬سبع‭ ‬قطع‭ ‬في‭ ‬فمي،‭ ‬بعضها‭ ‬بأوراق‭ ‬تغليفها،‭ ‬محاولاً‭ ‬ازدرادها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬أمري،‭ ‬ولا‭ ‬أذكر‭ ‬كم‭ ‬ضربة‭ ‬تلقيت،‭ ‬ولكنني‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الحلوى‭ ‬صارت‭ ‬علقماً‭ ‬في‭ ‬فمي،‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭ ‬معقد‭ ‬من‭ ‬الماكنتوش،‭ ‬فقد‭ ‬أرغمني‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أصب‭ ‬بقية‭ ‬الحلوى‭ ‬في‭ ‬كيس‭ ‬ورقي‭ ‬وأهرسها‭ ‬بقدمي‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تصبح‭ ‬صالحة‭ ‬للأكل،‭ ‬وزملائي‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬يتحسرون‭ ‬على‭ ‬الحلوى‭ ‬التي‭ ‬ضاعت‭ ‬سدى،‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬وقتها‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬الإنجليز‭ ‬مستعمرون‭ ‬وأن‭ ‬المفتش‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬كسب‭ ‬قلوبنا‭ ‬بالحلوى‭!‬

ولو‭ ‬خاطبت‭ ‬لجنة‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬الدولية‭ ‬بشأن‭ ‬ما‭ ‬لحق‭ ‬بي‭ ‬من‭ ‬ضرب،‭ ‬بسبب‭ ‬جدول‭ ‬‮«‬الضرب‮»‬،‭ ‬لأصدر‭ ‬من‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬قرارا‭ ‬يمنع‭ ‬تدريس‭ ‬تلك‭ ‬الجدول‭ ‬السخيف‭ ‬للتلاميذ‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أنه‭ ‬أداة‭ ‬تعذيب،‭ ‬ولا‭ ‬داعي‭ ‬لتدريسه‭ ‬أساساً‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أن‭ ‬الرياضيات‭ ‬والعلوم‭ ‬ترف‭ ‬ذهني‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إليه‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬صروف‭ ‬الضرب‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا