عالم يتغير
فوزية رشيد
حياة الماعز وضجيج الفراغ!
{ إن أردت صناعة التأثير فاصنع فيلما بتقنية عالية، الحبكة فيه تثير المشاعر الإنسانية الرافضة للظلم... أي ظلم، حتى لو كانت القصة قائمة على فرد واحد وفي حادثة استثنائية! ورغم انتشار الظلم بأفدح الصور في كل العالم، وما يحدث في غزة أحد أبشع نماذجه!
فلماذا لم تفتح النتفليكس منصتها لإنتاج فيلم عن الظلم الجماعي الفادح من دولة تمارس الإبادة؟! ولكن إن أردت التشويه والإساءة لبلد عبر فيلم درامي فإن الحدث أو الحبكة وحدها لا تكفي، لا بدّ من تضخيم الحدث ومركزية بطل القصة! ولا بدّ من إضافة التوابل العالية الإتقان في التصوير تحديدًا، وفي السيناريو، وفي إسقاط التلميحات الشائنة! واستغلال الظرف المعادي وتوظيفه في اصطياد حادثة بعينها، قد تحدث في كل بلدان العالم! ولكن هنا لا بدّ من تكثيف تلك الحادثة «الفردية» وتحميلها مالا تتسع له من تعمدّ التشويه! حتى يكون الفراغ محملاً بضجيج كبير، يغطي على (المصداقية الضائعة) حين يتم تعميم الحكم على بلد من خلال حالة فردية! هل هذا هو سرّ كل هذا الضجيج الفارغ حول الفيلم؟!
{ هذا الفراغ المليء بالضجيج، هو ما يمكن أن يوصف به فيلم «حياة الماعز» الذي أريد له سواء من حيث التمويل أو الإنتاج أو الحبكة الدرامية أو الإخراج والتصوير، أُريد له أن يخلق حالة من التأثير السلبي على المشاهد، ليس فقط ضدّ السعودية وحدها، وإنما ضدّ كل العرب والمسلمين! رغم أنه بقليل من التأمل والوعي يتم كشف الفراغ والسطحية، من حيث تعميم الحكم من خلال حادثة فردية كان بطلها (نجيب محمد) من «كيرلا» الهندية، يجمع (30 ألف روبية) ليذهب إلى السعودية بنظام «الكفيل» الذي تم الاستغناء عنه كنظام في عام 2021، وفعلت ذلك دول خليجية أخرى منها البحرين عام 2017! الحادثة منقولة عن (رواية) وليس عن تقرير موثق! فأضاف الفيلم إلى خيال الرواية خيالاً مضافًا ومهمًا هو المخيال السينمائي والتصوير العالمي المؤثر، الذي لولاه لما حظي الفيلم بأي اهتمام! ولاعتبره كثيرون حادثًا فرديًا لتعرض شخص لظلم من شخص آخر، ويحدث مثله وأكثر منه بكثير حوادث وجرائم في كل بلدان العالم، بل في الهند نفسها وبشكل يومي!
{ المهم يذهب «نجيب محمد» الهندي إلى السعودية للعمل، كما يفعل وفعل مئات الألوف من الهنود والآسيويين منذ عقود كثيرة، فتشاء الصُدف أن يقع في «ظروف استثنائية» حيث يتأخر كفيله عن القدوم إلى المطار لاستقباله وصديقه «حكيم»، فيلتقطه أحد أصحاب المزارع النائية في صحراء الربع الخالي وهو ليس بالكفيل! ليمارس عليه أنماطًا من الاستعباد، ويجعله يعيش ظروفًا قاسية بين الماعز والجمال، بما يذكرنا بأحوال الرق للعبيد من الأفارقة في الغرب، وأحوال الظلم والقتل والإبادة ضد المسلمين في «ميانمار» وفي الهند نفسها! ولكن في الغرب والهند، كان الظلم ممنهجًا واستعماريا وعنصريا، ومن الجهات الرسمية! وليس من (فرد خارج عن القانون) كما صاحب المزرعة، الذي اختطف نجيب وصاحبه بعيدًا عن الأعين الأمنية وعن الكفيل الأصلي!
{ الفيلم في كل حبكته ولغة الكلام والجسد والتوظيف التصويري العالمي، حاول (التعميم) وإطلاق أوصاف على العرب المسلمين، وجعل الحادثة الفردية التي تقول الرواية إنها تعود الى التسعينيات من القرن الماضي، جعلها حادثة للحكم على بلد وشعب بأكمله!
ولذلك أراد الفيلم جعلها كحادثة نموذجًا لحياة الآلاف الذين قال الفيلم عنهم عن تعمدّ إنهم ماتوا في الصحراء! رغم أن السعودية وكل دول الخليج تستقطب الملايين من الجالية الهندية، وغالبيتهم العظمى تعيش أوضاعًا عادية لا استثنائية فيها، بل منهم كثيرون يعيشون حياة مرفهة، ويرسلون سنويًا (مئات المليارات) إلى الهند، دون تعرضهم لأي ظلم أو استعباد، كما حاول الفيلم التعميم فيهما! فلماذا يتوافدون بالملايين إذًا حتى الآن؟!
{ إن منصة «النتفليكس» المعروفة بانتمائها إلى (النخبة العالمية الشريرة) التي تحترف صناعة الأزمات في العالم، وصناعة الإساءة والتشويه لأي بلد تستهدفه، جعلت من هذا الفيلم المليء بالثغرات في دوائر الفراغ التي يمتلئ بها، محط إثارة واستفزازا وتشويها متعمدا لبلاد الحرمين، المعروفة أكثر من غيرها من كل دول العالم، بتقديمها للمساعدات والمعونات الخيرية، وباستقبالها الإنساني سنويا لعشرات الملايين في الحج والعمرة، وبتطورها اللافت في كل المجالات وبمكانتها الدينية العالية ومكانتها العربية والإقليمية والإسلامية والدولية، وهو ما جعلها محطّ حقد وحسد الكثيرين ومن بينهم دول مختلفة!
{ لا علاقة للفيلم بنظام الكفيل الذي تم إسقاطه كما قلنا في العديد من دول الخليج ومنها السعودية، لأن صاحب المزرعة لم يكن هو الكفيل! وإنما أحد الشخوص الأنانية والشريرة، والهند نفسها مليئة بنموذجه وبالأحداث والحوادث اليومية والجرائم الفارقة! ورغم ذلك لم يجعل منها الإعلام أو السينما أداة لضرب الهندوسية أو البوذية فيها! كما حاول فيلم «حياة الماعز» البناء على (حادثة فردية) لوصم المسلمين العرب بما ليس فيهم، وخاصة أن التعميم بدا واضحًا في موتيفات الفيلم والحوار، حتى أن «نجيب» الذي خرج من الصحراء لاحقًا ليتوجه إلى بلاده، كان من أنقذه «مسلم إفريقي» هو «إبراهيم»! الحديث يطول وقد نستكمله في مكان آخر حول مفارقات وثغرات الفيلم الذي يسيء للهند نفسها وليس للسعودية إذا كان هناك وعي!!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك