العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن السلام والابتسام

اعترف‭ ‬للمرة‭ ‬الكذا‭ ‬وكذا‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬يعزز‭ ‬زعمي‭ ‬بأن‭ ‬عمري‭ ‬39‭ ‬سنة‭ ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬تكرّمت‭ ‬‮«‬أخبار‭ ‬الخليج‮»‬‭ ‬مشكورة‭ ‬بوضعها‭ ‬قرين‭ ‬زاويتي‭ ‬هذه‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الفوتوشوب،‭ ‬ثم،‭ ‬وقبل‭ ‬أيام‭ ‬كنت‭ ‬اجلس‭ ‬مع‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭ ‬وهمهمت‭ ‬بصوتي‭ ‬الرخيم‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬صوت‭ ‬شعبان‭ ‬عبدالرحيم‭: ‬ردوا‭ ‬السلام‭ ‬وما‭ ‬تجرحوش‭ ‬إحساسي،‭ ‬فصاح‭ ‬مصري‭ ‬بين‭ ‬الحضور‭: ‬ياه‭ ‬انت‭ ‬قديم‭ ‬أوي،‭ ‬حتى‭ ‬عفاف‭ ‬راضي‭ ‬نسيت‭ ‬الغنوة‭ ‬دي‭.‬

أجد‭ ‬نفسي‭ ‬اردد‭ ‬مقاطع‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأغنية‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬بعينها‭: ‬ردوا‭ ‬السلام،‭ ‬وللا‭ ‬السلام‭ ‬دا‭ ‬غالي‭/ ‬ردوا‭ ‬السلام‭ ‬وما‭ ‬تطلعوش‭ ‬في‭ ‬العالي،‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أطيق‭ ‬الشخص‭ ‬العبوس‭ ‬المتجهم،‭ ‬أو‭ ‬الذي‭ ‬تلقى‭ ‬عليه‭ ‬التحية‭ ‬فلا‭ ‬يرد‭ ‬عليها،‭ ‬وإن‭ ‬فعل‭ ‬لم‭ ‬ينظر‭ ‬إليك،‭ ‬أو‭ ‬تخرج‭ ‬منه‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬عليكم‭ ‬السلام‭ ‬أو‭ ‬أهلا‭ ‬وسهلا‮»‬‭ ‬وكأنه‭ ‬يقول‭: ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يسلمك‭!  ‬فالتجهم‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الآخرين‭ ‬‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬ضغينة‭ ‬بينك‭ ‬وبينهم‭ ‬‭ ‬دليل‭ ‬سوء‭ ‬الخلق‭ (‬واختزان‭ ‬الضغينة‭ ‬أيضاً‭ ‬سوء‭ ‬خلق‭ ‬لأنها‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬عقلية‭ ‬الثأر‭ ‬والانتقام‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬عادتي‭ ‬أن‭ ‬أحيي‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬به،‭ ‬وأحرص‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭ ‬على‭ ‬تحية‭ ‬الذين‭ ‬يؤدون‭ ‬أعمالا‭ ‬بسيطة،‭ ‬بحيث‭ ‬يبدو‭ ‬الفقر‭ ‬والتعب‭ ‬على‭ ‬سيماهم،‭ ‬وإذا‭ ‬تجاهل‭ ‬أحدهم‭ ‬تحيتي،‭ ‬ألقيتها‭ ‬عليه‭ ‬مجددا‭ ‬بصوت‭ ‬مرتفع،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬مزاجي‭ ‬رائقا‭ ‬فإنني‭ ‬أنبهه‭ ‬بأنه‭ ‬مطالب‭ ‬بالرد‭ ‬على‭ ‬التحية،‭ ‬وبأن‭ ‬ذلك‭ ‬لن‭ ‬يكلفه‭ ‬الكثير،‭ ‬وفي‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬فإن‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬يحس‭ ‬بالحرج،‭ ‬ويهمهم‭ ‬معتذراً،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يرد‭ ‬عليك‭ ‬بكل‭ ‬وقاحة‭ ‬وجلافة‭:  ‬ما‭ ‬ودي‭ ‬أسلم‭ ‬عليك‭.. ‬كيفي‭! ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬‮«‬كيفك‮»‬‭ ‬بل‭ ‬قلة‭ ‬تهذيبك،‭ ‬وسوء‭ ‬أدبك‭.‬

حدث‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬مكاتب‭ ‬شخصيات‭ ‬كبيرة‭ ‬تربطني‭ ‬بها‭ ‬علاقات‭ ‬مودة،‭ ‬ولابد‭ ‬طبعاً‭ ‬من‭ ‬المرور‭ ‬أولا‭ ‬بمدير‭ ‬المكتب‭ ‬أو‭ ‬السكرتير،‭ ‬وحدث‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الحالات‭ ‬أن‭ ‬تعرضت‭ ‬تحياتي‭ ‬لهؤلاء‭ ‬للتجاهل،‭ ‬فهم‭ ‬معتادون‭ ‬على‭ ‬استقبال‭ (‬كبار‭ ‬الشخصيات‭)‬،‭ ‬فمن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الأسمر‭ ‬المبهدل؟‭ ‬لعله‭ ‬أتى‭ ‬باحثاً‭ ‬عن‭ ‬وظيفة؟‭ ‬مسكين‭ ‬يحسب‭ ‬أننا‭ ‬سنسمح‭ ‬له‭ ‬بمقابلة‭ ‬صاحب‭ ‬السعادة‭. ‬وفي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭ ‬فإنني‭ ‬أعمد‭ ‬إلى‭ ‬العنطزة‭ ‬المستترة،‭ ‬وأقول‭ ‬كلاماً‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭: ‬قل‭ ‬لفلان‭ ‬إنني‭ ‬في‭ ‬انتظاره‭. ‬وفلان‭ ‬هكذا‭ ‬‮«‬حاف‮»‬‭ ‬هو‭ ‬‮«‬صاحب‭ ‬السعادة‮»‬‭ ‬ومجرد‭ ‬ذكري‭ ‬لأسمه‭ ‬بدون‭ ‬ألقاب‭ ‬يجعل‭ ‬السكرتير‭ ‬أو‭ ‬مدير‭ ‬المكتب‭ ‬في‭ ‬حيص‭ ‬بيص‭: ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬وثيق‭ ‬الصلة‭ ‬بصاحب‭ ‬السعادة‭ ‬بدرجة‭ ‬رفع‭ ‬التكليف‭ ‬معه،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬شخص‭ ‬جلف؟‭  ‬ويكون‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬طلبي‭ ‬بسؤال‭ ‬حذر‭: ‬هل‭ ‬عندك‭ ‬موعد‭ ‬مسبق‭ ‬للقائه؟‭ ‬لا‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬موعد‭. ‬بس‭ ‬هو‭ ‬ينتظرني‭.‬

هنا‭ ‬يسألني‭ ‬عن‭ ‬اسمي‭ ‬ثم‭ ‬يقلب‭ ‬أوراق‭ ‬مفكرته‭ ‬وينظر‭ ‬إليّ‭ ‬في‭ ‬شماتة‭ ‬المنتصر‭: ‬سوري،‭ ‬اسمك‭ ‬غير‭ ‬مسجل‭ ‬في‭ ‬دفتر‭ ‬المواعيد،‭ ‬فابتسم‭ ‬بدوري‭ ‬ابتسامة‭ ‬المنتصر‭ ‬وأقول‭: ‬تم‭ ‬ترتيب‭ ‬الموعد‭ ‬بيني‭ ‬وبينه‭ ‬خلال‭ ‬تناولنا‭ ‬العشاء‭ ‬سويا‭ ‬أمس‭. ‬عليك‭ ‬فقط‭ ‬إبلاغه‭ ‬بأنني‭ ‬أنتظره‭ ‬هنا‭. ‬وأنني‭ ‬مش‭ ‬فاضي‭ ‬وما‭ ‬عندي‭ ‬وقت‭ ‬أنتظر‭. ‬وبعد‭ ‬تردد‭ (‬طويل‭ ‬عادة‭) ‬يجري‭ ‬اتصالا‭ ‬بصاحب‭ ‬السعادة‭ ‬وقد‭ ‬يفاجأ‭ ‬بأنه‭ ‬خرج‭ ‬شخصيا‭ ‬للقائي‭ ‬ودعوتي‭ ‬للدخول‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭. ‬وبعد‭ ‬انتهاء‭ ‬اللقاء‭ ‬أمُرُّ‭ ‬بالسكرتير‭ ‬أو‭ ‬مدير‭ ‬المكتب‭ ‬وأجده‭ ‬يهش‭ ‬لتحيتي‭ ‬واقفاً‭ ‬فلا‭ ‬أعيره‭ ‬نظرة‭. ‬ليس‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬إثبات‭ ‬أنني‭ ‬شخص‭ ‬مهم،‭ ‬ولكن‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أحترم‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يحترمون‭ ‬الناس‭ ‬كافة‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مظاهرهم‭ ‬وألقابهم‭ ‬الاجتماعية‭.‬

وبالمقابل‭ ‬فإنني‭ ‬أتعاطف‭ ‬مع‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬تحتم‭ ‬عليهم‭ ‬طبيعة‭ ‬أعمالهم‭ ‬التعامل‭ ‬المباشر‭ ‬مع‭ ‬الجمهور‭ ‬وترغمهم‭ ‬اللوائح‭ ‬للعمل‭ ‬على‭ ‬الابتسام‭ ‬الدائم‭: ‬المضيفون‭ ‬والمضيفات‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬الطائرات،‭ ‬من‭ ‬يتحصلون‭ ‬قيمة‭ ‬الفواتير‭ ‬ويتلقون‭ ‬الشكاوى‭ ‬في‭ ‬شركات‭ ‬الاتصالات‭ ‬والكهرباء‭ ‬مثلا،‭ ‬موظفو‭ ‬المبيعات‭ ‬وشركات‭ ‬الطيران،‭ ‬فما‭ ‬من‭ ‬وظيفة‭ ‬ترهق‭ ‬الأعصاب‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬تتطلب‭ ‬التعامل‭ ‬المباشر‭ ‬مع‭ ‬الجمهور‭. ‬والجمهور‭ ‬فيه‭ ‬نسبة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الأجلاف‭ ‬والمتغطرسين‭ ‬الذين‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بهم‭ ‬الوقوف‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬وأن‭ ‬على‭ ‬الموظفين‭ ‬الجالسين‭ ‬أمامهم‭ ‬ان‭ ‬‮«‬يضربوا‭ ‬لهم‭ ‬تعظيم‭ ‬سلام‮»‬‭. ‬يقول‭ ‬البروفسور‭ ‬ديتر‭ ‬زايف‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬فرانكفورت‭ ‬الألمانية‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬ترغمهم‭ ‬وظائفهم‭ ‬على‭ ‬الابتسام‭ ‬البلاستيكي‭ ‬عرضة‭ ‬لأمراض‭ ‬الاكتئاب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭.‬

قلبي‭ ‬على‭ ‬مضيفات‭ ‬الطيران‭ ‬الحلوات‭ ‬المطالبات‭ ‬بالتبسم‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬وأتخيل‭ ‬الواحدة‭ ‬منهن‭ ‬وقد‭ ‬صار‭ ‬وجهها‭ ‬مثل‭ ‬وجه‭ ‬القذافي‭ ‬بعد‭ ‬إصابتها‭ ‬بالاكتئاب‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا