مقال رئيس التحرير
أنـــور عبدالرحمــــــن
الوجه الآخر من الصراع
على مدار ما يقرب من 250 يوما، شهد العالم فظائع وجرائم العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزة، تلك الجرائم التي لم يفلت منها طفل ولا شيخ ولا امرأة وحتى الأجنة في بطون أمهاتهم.
ذلك العدو الذي عاش سنوات وسنوات يردد أكاذيبه وادعاءاته ومظلوميته مستغلا الإعلام الغربي الذي يهيمن عليه من أجل أن يغزل خيوطه العنكبوتية لينشئ بيتا يتستر وراءه ليخفي حقيقته الفجة التي حاول تجميلها في عيون صانعيه من الغرب.
ولأن أوهن البيوت هو بيت العنكبوت، جاءت الأحداث التي أعقبت السابع من أكتوبر لتحطم الأكذوبة الصهيونية، وانكشف الوجه القبيح للاحتلال، وسقطت ورقة التوت وانكشفت عوراته أمام الأجيال الجديدة من الشارع الغربي رغم المحاولات المضنية التي تبذلها حكومات هذه الدول لإنقاذ نتنياهو وزبانيته، حتى باتت مراكز البحوث الغربية تخصص جلسات مطولة لبحث أسباب خسائر الاحتلال.
في 17 مايو الماضي ألقى البروفيسور جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو ومؤلف كتاب «النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة» محاضرة نظمها «مركز الدراسات المستقلة» في أستراليا، بعنوان «لماذا إسرائيل في ورطة عميقة؟» أجاب فيها عن هذا السؤال قائلا: إن الإسرائيليين عالقون في غزة؛ لأنهم قالوا إنهم لن يغادروا غزة وسيبقوا هناك، على الرغم من أنهم لم يهزموا حماس، وكذلك من سيدير هذا المكان؟
أما بشأن القدرة الإسرائيلية في ترويج قصتها بشأن 7 أكتوبر، قال البروفيسور جون ميرشايمر: لقد تحكم الإسرائيليون بسرد رواياتهم بطريقة محكمة حتى أواخر الثمانينيات، حتى ظهرت مجموعة من المؤرخين في إسرائيل تسمى «المؤرخين الجدد»، كان لديهم إمكانية الوصول إلى الأرشيف الإسرائيلي وحصلوا على إمكانية الوصول إلى السجلات المتعلقة بكيفية إنشاء إسرائيل، وما فعلوه أنهم نسفوا تقريبا كل الأساطير حول كيفية إنشاء إسرائيل، وصوروا الإسرائيليين بشكل سلبي.
وتابع: بمجرد ظهور المؤرخين الجدد بدأ جميع أنواع الناس، وخاصة على مستوى النخبة، في التفكير بشكل مختلف عن إنشاء إسرائيل وسلوكها.
ثم ما حدث بعد ذلك هو ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، الإنترنت، فإذا كانت إسرائيل تتمتع بنفوذ وتؤثر فيما تقوله «وول ستريت جورنال» أو ما تقوله صحيفة «نيويورك تايمز» وما تقوله صحيفة «واشنطن بوست»، لكن «تيك توك» يمثل كابوسا لإسرائيل، هذا الكابوس المطلق.
واستعرض محادثة مسربة لجوناثان غرينبلات رئيس رابطة مكافحة التشهير الصهيونية الأمريكية، محذرا من تأثير تيك توك: «أريد أن أشير إلى أن لدينا مشكلة أجيال كبيرة جدا، وهي أن كل استطلاعات الرأي تدل على أنه ليس هناك فارق بين اليمين واليسار في الولايات المتحدة في تأييد إسرائيل، ولكن المشكلة بين الجيل الصغير والجيل الكبير، وأعداد الشباب الذين يؤيدون حماس مرتفعة بشكل صادم ومرعب، نتيجة التيك توك».
وأوضح البروفيسور جون ميرشايمر أن هناك كارثة تامة لإسرائيل بأن الإسرائيليين يصورن أنفسهم وهم يقومون بأشياء فظيعة للغاية للفلسطينيين ثم يضعونها على الإنترنت، من الصعب تماما تصديق ذلك، وإذا كنت تريد إثبات أن إسرائيل مذنبة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية فعليك أن تفعل شيئين، عليك أن تقدم دليلا على النية أولا، وعلى أن تقدم أدلة على أن تصرفات إسرائيل تتفق مع النية.
وفيما يتعلق بالنية، فإن القادة الإسرائيليين من جميع الاتجاهات بمن فيهم بنيامين نتنياهو قالوا كل ما يظهر نية الإبادة الجماعية، حتى إن صحيفة هاآرتس الإسرائيلية نشرت مقالا بعنوان «الطريق إلى لاهاي ممهد بالتعليقات العلنية للقادة الإسرائيليين»، وهذا صحيح تماما، ثم لديك مقاطع الصور التي ينشرها الإسرائيليون أنفسهم.
وأشار البروفيسور جون ميرشايمر إلى أن ابنته التي في الأربعينيات من عمرها ولم تكن سياسية مطلقا تحدثت عن مشاهدة الأطفال ما يفعله الإسرائيليون على «تيك توك»، واشتكت من أنها لا تستطيع مشاهدة مقاطع بهذه الفظاعة، واعتبر أن هذه كارثة بالنسبة إلى إسرائيل وأنها كارثة لمن يريد أن يروج ادعاءاته.
وفي مقطع آخر قال إن البعض يتصور أن إسرائيل التي تمتلك سلاحا نوويا ستظل موجودة، ولكن لا يجب أن ننسى أن جنوب إفريقيا العنصرية اختفت رغم امتلاكها سلاحا نوويا أيضا.
وتابع أن مستقبل إسرائيل على المدى الطويل هو موضع تساؤل لأسباب كثيرة، لافتا إلى أنه بعد 7 أكتوبر غادر 500 ألف إسرائيلي البلاد، لافتا إلى أنهم يبحثون عن الحصول على الجنسية البولندية حتى يحصلوا على جواز سفر بولندي، وينطبق الشيء على دول أوروبية أخرى.
واختتم حديثه قائلا إن هذا البلد «إسرائيل» يعاني الكثير من المشاكل.
وللوقوف على هذه المتغيرات التي فرضت نفسها على معادلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يؤكد أن ما تشهده ساحات الجامعات الأمريكية الكبرى والأوروبية من مظاهرات تضامنية مع الشعب الفلسطيني للمطالبة بالحرية لفلسطين يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأجيال الجديدة ترفض السردية الإسرائيلية تجاه فلسطين، وأن وسائل التواصل الاجتماعي كانت أداة فاصلة في كشف الجرائم الإسرائيلية، وخاصة «تيك توك» ومنصة «إكس»، باعتبارهما من المنصات التي أتاحت صوت الحقيقة التي حاولت إسرائيل قتلها بصواريخها من خلال استهداف الصحفيين الفلسطينيين على الأرض وكذلك من خلال تأثيرها اللافت على منصات أخرى كالفيسبوك والإنستغرام واليوتيوب.
الصراع في الأراضي المحتلة يقترب من 80 عاما، نجحت إسرائيل في معظمها في لعب دور الضحية من خلال اختلاق الأكاذيب والادعاءات في حق الفلسطينيين، الذين مورست في حقهم كل أنواع التشويه على مدار العقود الماضية بداية من أن أرض فلسطين هي أرض بلا شعب، مرورا ببيع الفلسطينيين الأراضي لليهود، وصولا إلى قتل الأطفال الرضع واغتصاب النساء في 7 أكتوبر.
ولكن هذه المرة الأكاذيب لم تنطلِ على الجيل الجديد، في عصر سرعة المعلومات، فإذا كنا نتابع نتائج الحروب في القرن الماضي عبر المذياع، وشهدنا بعض مشاهدها عبر شاشات الأخبار في بداية القرن الحالي، إلا أننا وصلنا إلى متابعة الحروب الآن على الهواء مباشرة في ظل تباهي مرتكبيها بجرائمهم كأنها إحدى الألعاب القتالية الإلكترونية، التي حاول مبتكروها من الغرب غزو عقول الأجيال الجديدة بها، ولكن ما يثلج الصدر أن هذا الجيل حطم كل مخططات الصهيونية العالمية، وأثبت أنه جيل واع بقضايا أمته، وعلينا أن نحافظ على استمرارية يقظة هذا الجيل وعدم السماح بتغييبه عن الهم القومي، والاستفادة بقدراته كأحد الأسلحة في يد الأمة العربية الفتية بشبابها.
الغضبة الإسرائيلية من «تيك توك» ليست بعيدة عن الإصرار الأمريكي على ملاحقة التطبيق الذي تملكه شركة «بايت دانس ByteDance» ومقرها الصين، بعد أن كانت أحد الأسباب الرئيسية في فضح التواطؤ الغربي مع إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وذلك حتى تتيح إسرائيل لنفسها الفرصة لوضع مساحيق التجميل لترسم وجها بريئا تخفي وراءه ملامح القاتل المتسلسل الذي يقتل ضحايا بدم بارد، ويساعدها في ذلك ساسة الغرب الذين يقفون اليوم للدفاع باستماتة عن تل أبيب، ولم يضطلعوا بأي دور إنساني لوقف إطلاق النار.
النظام الدولي الانفرادي الذي كان سائدا في العقدين الماضيين أثبت فشله في تحقيق الاستقرار في العالم، وينتظر سقوط ورقة التوت الأخيرة عن عوراته حتى يتحرك المجتمع الدولي لإعادة هندسة هذا النظام، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي التي ابتكرها الغرب لتدمير شعوبنا من خلال اختراق مفاهيم الأجيال الجديدة، لكن تحولت إلى الوسيلة التي نزعت ورقة التوت، أمام أعين أبناء الألفية الجديدة الذين انتصروا في معركة الوعي القومي، الذين أسهموا في فضح انتهاكات إسرائيل.
إن الصراع لم ينته بعد، وعلينا ألا ننخدع مرة أخرى، وعلينا ألا نترك أبناءنا فريسة سهلة في يد القوى الغربية يعبثون في أفكارهم ويشكلون وعيهم في غيبة منا، لأن للصراع وجوها كثيرة، قد تكون حروب القنابل والصواريخ هي أدناها دموية، وليبقى الحذر كل الحذر من حروب العقول التي تمسخ الهوية وتهدر القضية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك