العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ورقة من ملف رمضان

ما‭ ‬زال‭ ‬عطر‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬معلقا‭ ‬في‭ ‬الأجواء،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أشعر‭ ‬بالجوع‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬مساء‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬ورغم‭ ‬ان‭ ‬رمضان‭ ‬يهم‭ ‬العموم،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬مسلم‭ ‬يحس‭ ‬بأنه‭ ‬يخصه‭ ‬وله‭ ‬فيه‭ ‬طقوس‭ ‬بعينها،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭  ‬فضائية‭ ‬عربية‭ ‬قدمت‭ ‬لي‭ ‬دعوة‭ ‬قبل‭ ‬رمضان‭ ‬الأخير‭ ‬بنحو‭ ‬أربعة‭ ‬أشهر،‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬لجنة‭ ‬تضع‭ ‬خطة‭ ‬برامجية‭ ‬لها‭ ‬للشهر،‭ ‬وبكل‭ ‬قلة‭ ‬ذوق‭ ‬رفضت‭ ‬الدعوة‭ ‬وقلت‭ ‬بوقاحة‭: ‬لن‭ ‬أشارك‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬العبث‭ ‬باسم‭ ‬رمضان،‭ ‬لأنه‭ ‬شهر‭ ‬محفور‭ ‬في‭ ‬وجداني‭ ‬بخصوصيات‭ ‬اندثر‭ ‬معظمها‭ ‬ولكنها‭ ‬تبقى‭ ‬مخزونة‭ ‬في‭ ‬سنام‭ ‬ذاكرتي،‭ ‬فأتألم‭ ‬لأن‭ ‬رمضان‭ ‬‮«‬تعولم‮»‬،‭ ‬وأحزن‭ ‬لأن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المظاهر‭ ‬الرمضانية‭ ‬اختفت‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬السودان‭ ‬الكبرى،‭ ‬مثل‭ ‬جلوس‭ ‬أهل‭ ‬كل‭ ‬حي‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬العامة‭ ‬عند‭ ‬الإفطار،‭ ‬ليتشاركوا‭ ‬الطعام،‭ ‬وليتسنى‭ ‬لكل‭ ‬عابر‭ ‬سبيل‭ ‬حالت‭ ‬ظروفه‭ ‬دون‭ ‬تناوله‭ ‬الإفطار‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬وفي‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬2014‭ ‬كان‭ ‬السفير‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬عائدا‭ ‬إلى‭ ‬قواعده‭ ‬بعد‭ ‬زيارة‭ ‬لمنطقة‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬الخرطوم‭ ‬مع‭ ‬قرب‭ ‬غروب‭ ‬الشمس‭ ‬وفوجئ‭ ‬بأشخاص‭ ‬يقطعون‭ ‬عليه‭ ‬الطريق‭ ‬فقال‭ ‬في‭ ‬سره‭: ‬رحنا‭ ‬في‭ ‬داهية‭ ‬يا‭ ‬ناس‭ ‬يا‭ ‬عسل‭ ‬داعش‭ ‬وصل،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬سعادته‭ ‬عندما‭ ‬اكتشف‭ ‬أن‭ ‬أهل‭ ‬الحي‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬الطريق‭ ‬السريع‭ ‬يوقفون‭ ‬السيارات‭ ‬العابرة‭ ‬مع‭ ‬قرب‭ ‬موعد‭ ‬الافطار‭ ‬ليشارك‭ ‬ركابها‭ ‬في‭ ‬الإفطار‭ ‬الجماعي‭ ‬في‭ ‬الحي‭.‬

وفي‭ ‬بلدتنا‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬صبي‭ ‬ان‭ ‬يحمل‭ ‬صينية‭ ‬الإفطار‭ ‬الخاصة‭ ‬بوالده‭ ‬إلى‭ ‬المسجد،‭ ‬وكانت‭ ‬العادة‭ ‬ان‭ ‬يتحلق‭ ‬الرجال‭ ‬حول‭ ‬المائدة‭ ‬الرمضانية‭ ‬من‭ ‬اذان‭ ‬المغرب‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬صلاة‭ ‬التراويح،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الجلسة‭ ‬الطويلة‭ ‬تتطرق‭ ‬للقضايا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تخص‭ ‬أهل‭ ‬الحي،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الصغار‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬مدللين‭ ‬أو‭ ‬مدلعين،‭ ‬بل‭ ‬بالعكس‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬حقهم‭ ‬منافسة‭ ‬الكبار‭ ‬على‭ ‬أطايب‭ ‬الطعام،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بطوننا‭ ‬تمتلئ‭ ‬إلا‭ ‬ونحن‭ ‬نعيد‭ ‬الصواني‭ ‬الى‭ ‬بيوتنا،‭ ‬حيث‭ ‬كنا‭ ‬نجلس‭ ‬بما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬محتوياتها‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬منزوية‭ ‬ونلتهم‭ ‬الأخضر‭ ‬واليابس،‭ ‬وكأنه‭ ‬آخر‭ ‬زادنا‭ ‬قبل‭ ‬إرجاع‭ ‬الآنية‭ ‬الفارغة‭ ‬إلى‭ ‬البيوت‭.‬

كان‭ ‬بنا‭ ‬نهم‭ ‬عجيب‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬لأن‭ ‬وجبتي‭ ‬الافطار‭ ‬والسحور‭ ‬مميزتان،‭ ‬وياما‭ ‬جاهدنا‭ ‬كي‭ ‬نبقى‭ ‬يقظانين‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تفوتنا‭ ‬الشعيرية‭ ‬والرز‭ ‬باللبن‭ ‬في‭ ‬السحور،‭ ‬ولكن‭ ‬هيهات‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬كان‭ ‬البقاء‭ ‬فيها‭ ‬خارج‭ ‬البيت‭ ‬حتى‭ ‬السابعة‭ ‬مساء‭ ‬يعتبر‭ ‬‮«‬صياعة‭ ‬وصرمحة‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬اليوم‭ ‬الرمضاني‭ ‬الكبير‭ ‬بالنسبة‭ ‬للصغار‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬وسط‭ ‬وشمال‭ ‬السودان‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الجمعة‭ ‬اليتيمة‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬جرت‭ ‬العادة‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬تقوم‭ ‬كل‭ ‬عائلة‭ ‬مات‭ ‬لها‭ ‬قريب‭ ‬خلال‭ ‬الأعوام‭ ‬الخمسة‭ ‬او‭ ‬الستة‭ ‬الماضية‭ ‬بإعداد‭ ‬فتة‭ (‬ثريد‭) ‬يتم‭ ‬فيها‭ ‬رش‭ ‬الخبز‭ ‬بمرق‭ ‬اللحم،‭ ‬وكانوا‭ ‬يسمون‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬عشاء‭ ‬الميتين‮»‬،‭ ‬ويعتبرونه‭ ‬صدقة‭ ‬على‭ ‬أرواحهم،‭ ‬وكنا‭ ‬نعرف‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬عليها‭ ‬تقديم‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬العشاء‮»‬‭ ‬في‭ ‬موعد‭ ‬وجبة‭ ‬‮«‬الغداء‮»‬،‭ ‬ونطوف‭ ‬عليها،‭ ‬ونكتفي‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الاحوال‭ ‬بالتقاط‭ ‬اللحم‭ ‬كي‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬بطوننا‭ ‬متسع‭ ‬لما‭ ‬تقدمه‭ ‬عشرات‭ ‬البيوت،‭ ‬وكنا‭ ‬نتسم‭ ‬بـ«اللؤم‮»‬‭ ‬فنتجاهل‭ ‬بيوت‭ ‬الفقراء‭ ‬الذين‭ ‬كنا‭ ‬نعرف‭ ‬ان‭ ‬إمكاناتهم‭ ‬المادية‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لهم‭ ‬بالسخاء‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬اللحم،‭ ‬ونركز‭ ‬على‭ ‬بيوت‭ ‬البرجوازيين‭ ‬من‭ ‬الموتى،‭ ‬فالبرجوازيون‭ ‬لا‭ ‬يفوتون‭ ‬فرصة‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬المناسبة‭ ‬حزينة‭ ‬لإثبات‭ ‬أنهم‭ ‬أعلى‭ ‬شأنا‭ ‬من‭ ‬الآخرين،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬تصنيفنا‭ ‬موتى‭ ‬خمسة‭ ‬نجوم‭ ‬نحرص‭ ‬على‭ ‬زيارة‭ ‬بيوت‭ ‬ذويهم،‭ ‬ونحن‭ ‬موقنون‭ ‬بأنهم‭ ‬سيقدمون‭ ‬لنا‭ ‬وجبة‭ ‬‮«‬عليها‭ ‬القيمة‮»‬،‭ ‬وموتى‭ ‬‮«‬نجمة‭ ‬واحدة‮»‬‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نرى‭ ‬ان‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يبرر‭ ‬دخول‭ ‬بيوتهم‭. ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬ان‭ ‬المشروم،‭ ‬كان‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬النوبي‭ ‬طعاما‭ ‬للفقراء،‭ ‬يستخدمونه‭ ‬كبديل‭ ‬للحم،‭ ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬النظرة‭ ‬الدونية‭ ‬للمشروم‭ ‬هو‭ ‬انه‭ ‬يسمى‭ ‬باللغة‭ ‬النوبية‭ ‬‮«‬كجن‭ ‬قور‮»‬‭ ‬أي‭ ‬‮«‬علف‭ ‬الحمير‮»‬،‭ ‬وبعض‭ ‬أنواعه‭ ‬سامة‭ ‬تضعها‭ ‬في‭ ‬فمك‭ ‬فتلسعك‭ ‬كما‭ ‬عقرب‭ ‬وتسبب‭ ‬نوبات‭ ‬اسهال‭ ‬حتى‭ ‬للبهائم‭.. ‬ودار‭ ‬الزمان‭ ‬وصار‭ ‬ابو‭ ‬الجعافر‭ ‬يجاري‭ ‬المتحضرين‭ ‬ويطلب‭ ‬الوجبات‭ ‬بالمشروم‭ ‬في‭ ‬المطاعم،‭ ‬متناسيا‭ ‬أنه‭ ‬‭ ‬وفي‭ ‬عرف‭ ‬أهله‭ ‬‭ ‬انحدر‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الحمير‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا