العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

هل أنا ناجح؟ لكم القرار (4)

هذه‭ ‬هي‭ ‬الحلقة‭ ‬الرابعة‭ ‬حول‭ ‬موضوع‭ ‬النجاح،‭ ‬وأواصل‭ ‬سرد‭ ‬المعطيات‭ ‬التي‭ ‬تجعلني‭ ‬أعتقد‭ ‬بأنني‭ ‬ناجح،‭ ‬كما‭ ‬اعتبرني‭ ‬مؤلف‭ ‬سوداني‭ ‬كان‭ ‬بصدد‭ ‬إصدار‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬‮«‬قصة‭ ‬نجاح‮»‬‭ ‬شخصيات‭ ‬سودانية‭ ‬مختارة‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭ (‬وقد‭ ‬صدر‭ ‬الكتاب‭ ‬بالفعل‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2015‭)‬

وأواصل‭ ‬اليوم‭ ‬الزعم‭ ‬بأنني‭ ‬أعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬ناجحا‭ ‬ليس‭ ‬لأنني‭ ‬أنجزت‭ ‬أمرا‭ ‬محسوسا،‭ ‬بل‭ ‬لأنني‭ ‬قانع‭ ‬بما‭ ‬حققته‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الشخصي‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬فمثلا‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬الالتحاق‭ ‬بالجامعة‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬وتسنى‭ ‬لي‭ ‬فيها‭ ‬تعزيز‭ ‬علاقتي‭ ‬بمعشوقتي‭ (‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬ولأن‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬تجعل‭ ‬عقول‭ ‬طلابها‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات،‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬كنوز‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬وعشقتها،‭ ‬بل‭ ‬بلغت‭ ‬بي‭ ‬الجرأة‭ ‬والبجاحة‭ ‬أنني‭ ‬كتبت‭ ‬بها‭ ‬مقالا‭ ‬نشرته‭ ‬لي‭ ‬صحيفة‭ ‬يومية‭ ‬مرموقة،‭ ‬أخالف‭ ‬فيه‭ ‬الرأي‭ ‬سفير‭ ‬بلادي‭ ‬في‭ ‬موسكو،‭ ‬فأصيب‭ ‬رأسي‭ ‬بالاستسقاء‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬عبئا‭ ‬على‭ ‬منكبي،‭ ‬وبعدها‭ ‬بسنوات‭ ‬نشرت‭ ‬لي‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬الرأي‭ ‬العام‮»‬‭ ‬مقالا‭ ‬آخر،‭ ‬وكتبت‭ ‬بعدها‭ ‬عشرات‭ ‬المقالات،‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬البريد‭ ‬إلى‭ ‬المزبلة،‭ ‬لأنني‭ ‬‮«‬صدقت‭ ‬نفسي‮»‬،‭ ‬وركبني‭ ‬وهم‭ ‬أنني‭ ‬كاتب‭ ‬متمكن‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أخوض‭ ‬في‭ ‬الفاضي‭ ‬والمليان‭ ‬فتجد‭ ‬مقالاتي‭ ‬الترحيب‭. ‬وبعدها‭ ‬‮«‬توبة‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬المسألة‭ ‬مكلفة‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬مقال‭ ‬كان‭ ‬يتطلب‭ ‬شراء‭ ‬طابع‭ ‬بريدي‭ ‬وكانت‭ ‬قيمة‭ ‬الطابع‭ (‬قرشا‭ ‬ونصف‭ ‬القرش،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬للجنيه‭ ‬السوداني‭ ‬عضلات‭ ‬وكرش‭) ‬تكفي‭ ‬لشراء‭ ‬وجبة‭ ‬متواضعة‭.‬

وفور‭ ‬مغادرة‭ ‬الجامعة‭ ‬مسلحا‭ ‬ببكالوريوس‭ ‬شرف،‭ ‬عملت‭ ‬بتدريس‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬متجاهلا‭ ‬نصيحة‭ ‬أساتذتي‭ ‬بمواصلة‭ ‬الدراسة‭ ‬لنيل‭ ‬الماجستير‭ (‬لأنني‭ ‬لو‭ ‬قلت‭ ‬لوالدي‭ ‬إنني‭ ‬سأظل‭ ‬طالب‭ ‬علم‭ ‬ولو‭ ‬لشهر‭ ‬إضافي‭ ‬لحرمني‭ ‬من‭ ‬الميراث‭ ‬الافتراضي‭)‬،‭ ‬ورغم‭ ‬أنني‭ ‬طلقت‭ ‬التدريس‭ ‬بعد‭ ‬ممارسته‭ ‬لنحو‭ ‬سبع‭ ‬سنوات،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬أعتبر‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬أخصب‭ ‬فترة‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬المهنية،‭ ‬وبلا‭ ‬أي‭ ‬ادعاء‭ ‬للتواضع‭ ‬أقول‭ ‬إنني‭ ‬كنت‭ ‬مدرسا‭ ‬ناجحا‭ ‬جدا،‭ ‬ليس‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬مميزا‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬زملائي‭ (‬بالعكس‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬مدرسو‭ ‬لغة‭ ‬إنجليزية‭ ‬زملاء‭ ‬لي‭ ‬تعلمت‭ ‬على‭ ‬أيديهم‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أتعلمه‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬والجامعة‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬لأنني‭ ‬عشقت‭ ‬المهنة‭ ‬وكنت‭ ‬أحب‭ ‬طلابي،‭ ‬وكان‭ ‬همي‭ ‬أن‭ ‬أحببهم‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتقيد‭ ‬بالمنهج‭ ‬المقرر،‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬حملهم‭  ‬على‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬الروايات‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬مرشد‭ ‬صف‭ ‬أول‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬الثانوية‭ ‬الحكومية،‭ ‬وكان‭ ‬المرشد‭ ‬وقتها‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬الفصل‮»‬،‭ ‬ولكنني‭ ‬كنت‭ ‬‮«‬أخو‮»‬‭ ‬الفصل‭ ‬أكثر‭ ‬مني‭ ‬‮«‬أبوه‮»‬،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬صديقا‭ ‬لطلاب‭ ‬ذلك‭ ‬الفصل،‭ ‬وأهتم‭ ‬حتى‭ ‬بأحوالهم‭ ‬الخاصة،‭ ‬وأقسو‭ ‬عليهم‭ ‬فقط‭ ‬عند‭ ‬ارتكاب‭ ‬مخالفات‭ ‬سلوكية‭ ‬جسيمة‭. ‬في‭ ‬سنة‭ ‬واحدة‭ ‬جعلت‭ ‬طلاب‭ ‬‮«‬أولى‭ ‬خالد‮»‬‭ ‬يقرؤون‭ ‬رواية‭ ‬إنجليزية‭ ‬كل‭ ‬أسبوع،‭ ‬ويخضعون‭ ‬لاختبار‭ ‬فيها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ننتقل‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬التالية،‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬كتاب‭ ‬في‭ ‬‮«‬مستواهم‮»‬‭ ‬في‭ ‬مخزن‭ ‬الكتب‭ ‬بالمدرسة،‭ ‬وعرفت‭ ‬لاحقا‭ ‬أن‭ ‬طريقتي‭ ‬تلك‭ ‬تسمى‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬تدريس‭ ‬اللغات total immersion أي‭ ‬الغمر‭ ‬الكامل،‭ ‬بمعنى‭ ‬تعريض‭ ‬الدارس‭ ‬بانتظام‭ ‬ومنهجية‭ ‬لتلك‭ ‬اللغة‭ ‬تخاطبا‭ ‬وقراءة‭ ‬وكتابة‭ ‬حتى‭ ‬‮«‬يغوص‮»‬‭ ‬فيها‭ ‬

وذات‭ ‬مرة‭ ‬نشرت‭ ‬السفارة‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬إعلانا‭ ‬عن‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬توظيف‭ ‬مترجم‭ / ‬ضابط‭ ‬إعلام،‭ ‬وجلست‭ ‬للاختبار‭ ‬مع‭ ‬عشرات‭ ‬المتنافسين‭ ‬وفزت‭ ‬بالوظيفة،‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬إنجليزيتي‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬الأفضل‭ - ‬فكثيرون‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬جيلي‭ ‬يتقنون‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬رغم‭ ‬أنهم‭ ‬مهندسون‭ ‬أو‭ ‬قانونيون‭ ‬أو‭ ‬أطباء‭ ‬أو‭ ‬موظفو‭ ‬خدمة‭ ‬عامة‭ - ‬بل‭ ‬لأنني،‭ ‬وبحكم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬قارئا‭ ‬نهما،‭ ‬اجتزت‭ ‬المقابلة‭ ‬الشخصية‭ (‬الإنترفيو‭) ‬بجدارة‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬ملما‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬حاوروني‭ ‬فيها،‭ ‬وخلال‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬السفارة‭ ‬أدمنت‭ ‬الصحف‭ ‬البريطانية،‭ ‬وعرفت‭ ‬قيمة‭ ‬ومغزى‭ ‬حرية‭ ‬الإعلام‭ ‬والتعبير،‭ ‬وفقدت‭ ‬وظيفتي‭ ‬في‭ ‬السفارة‭ ‬لاحقا‭ ‬لأنهم‭ ‬عرفوا‭ ‬أنني‭ ‬مرتاد‭ ‬سجون‭ ‬أي‭ ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬دخول‭ ‬السجن‭ -‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭- ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬البريطانيين‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬يريدون‭ ‬إغضاب‭ ‬الحكومة‭ ‬بتوظيف‭ ‬شخص‭ ‬مثلي‭ ‬مغضوب‭ ‬عليه‭ ‬حكوميا،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أجاهر‭ ‬بأفكار‭ ‬معادية‭ ‬للحكومة‭.‬

تلك‭ ‬‮«‬الطردة‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬نعمة،‭ ‬فقد‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬ممارسة‭ ‬التدريس‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬عليّ‭ ‬الاختيار‭ ‬لأكون‭ ‬ضمن‭ ‬دفعة‭ ‬للابتعاث‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬لدراسة‭ ‬فنون‭ ‬إنتاج‭ ‬البرامج‭ ‬التلفزيونية‭ ‬والتعليمية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص،‭ ‬وبذلك‭ ‬انفتح‭ ‬الطريق‭ ‬أمامي‭ ‬إلى‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا