زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ليس للنجاح معيار ثابت (2)
عطفا على مقالي ليوم أمس، أقول إنه اتصل بي صديق يعتزم اصدار كتاب عن شخصيات سودانية يعتبرها ناجحة، أن أكتب عن تجربتي ومسيرتي باعتباري أحد الناجحين، وقلت إن مجرد كتابتي لهذه الكلمات لتنشر في صحيفة عربية ظلت تنشر مقالاتي يوميا على مدى سنوات طوال، نجاح ما بعده نجاح، لأنني أكتب هذه السطور بلغة (عربية) هي ليست لغتي الأم، لأنني نشأت ناطقا باللغة النوبية وهي أقدم من العربية واللاتينية، ولا قواسم مشتركة بينها وبين أي لغة أخرى خارج إفريقيا.
وتقودني هذه النقطة الى نجاح آخر لي وهو أنه وبرغم قوة انتمائي الى الحضارة والثقافة النوبية، إلا أنني قوي الانتماء لكل السودان وأحب كل أهل السودان، ولم ولن أمارس الاستعلاء على جنس او عرق أو قبيلة. وبداهة فلست أول ولا آخر من «نجح» في مضمار الانتماء لعموم الوطن، فهناك الملايين الذين هم أكثر استعدادا مني لخدمة الوطن والدفاع عن حقوق مواطنيه، وأريد لهؤلاء أن يحسوا ويسعدوا بكونهم «ناجحين» ويا ما في الوطن فاشلون وخونة لا يترددون في بيع ذممهم وضمائرهم، بل وبعض تراب الوطن لقاء مكاسب شخصية.
طرحت قبل سنوات كتابي الثالث: «سيرة وطن في مسيرة زول»، لخصت فيه جوانب من مشوار حياتي في ضوء النقلات والمنعطفات التي مر بها الوطن، ولا بأس من استحضار مشاهد من ذلك المشوار، لأفسر وأبرر لماذا أعتقد انني «ناجح»: أنتمي لجزيرة نهرية لا تجد لها ذكرا في الأطالس، ولأسرة نوبية بسيطة، وعانيت الأمرين خلال السنوات الأولى من مسيرتي الأكاديمية، بسبب حاجز اللغة، فقد كانت العربية لغة التدريس، وكان معظمنا أطرش في الزفة لعدم استيعابنا ما يقوله المعلمون، وفي زمن كان فيه نحو ألف تلميذ يتنافسون على نحو 80 مقعدا في المدارس المتوسطة، كنت ضمن المحظوظين الثمانين (ولكن في الجولة الثانية لأنني أخفقت في الجولة الأولى)، وفي المدرسة المتوسطة كانت تنتظرني مفاجأة مفجعة وهي فرع الرياضيات المسمى «الجبر».
ظهرت في السنوات الأخيرة لعبة الأرقام المعروفة باسم سودوكو، ولا يستطيع التوصل الى الحل الصحيح فيها إلا ذو بأس وجلد وقدرة على التركيز، لأنك مطالب بملء تسعة مربعات موجودة داخل مربع واحد كبير بالأعداد من 1 إلى 9 دون أن يتكرر أي عدد داخل المربع الصغير الواحد أو طوليا أو أفقيا في المربع الكبير. والسودوكو مقارنة بالجبر مجرد «تسلية»، ومنذ أول «حصة» كتب فيها مدرس الرياضيات س+ ص، وقف دماغي ضد ذلك العلم بالمرصاد، وأصبحنا أنا والجبر «الشحمة والنار»، وهذه عبارة سودانية تعني عدم التوافق، لأن الشحم والنار، عدوان لدودان، وحدثت القطيعة التامة بيني وبين كافة فروع علم الرياضيات، ولكنني «لهلوبة» في السودوكو.
في زماننا ذاك كان الحافز على التفوق الأكاديمي ذاتيا، لأن معظم أولياء الأمور وقتها لم يكونوا مهووسين كنظرائهم في عالمنا الراهن، بأن يصبح عيالهم دكاترة ومهندسين، بل كان كثير منا يسمع من أحد الوالدين أو كليهما عبارة «كفاية قراية»، وكنت في قرارة نفسي أعرف أنه لو شكوت لأمي أو لأبي عن معاناتي مع الجبر، لجبروا خاطري بإخراجي من المدرسة نهائيا، فما من أم أو أب يرضى لبنته أو ابنه «الذل».
وأحسب أن ما حملني على عدم الشكوى هو ليس حبي لـ«التعلم»، بصفة عامة بل شغفي الشديد بـ«القراءة»، فقد كنت قارئا نهما، وقرأت جميع الكتب التي كانت في مكتبة مدرسة بدين الأولية (الابتدائية)، وعند انتقالي الى مدرسة البرقيق الوسطى كنت قبل إكمال تلك المرحلة بعام كامل، قد قرأت كل الروايات الإنجليزية في مكتبتها، وهكذا بدأت قصة حبي للغة الإنجليزية، فجعلت منها سلاحا أكاديميا يعوضني فارق الدرجات التي تضيع علي في مادة الرياضيات، بل وفي زمن لم يكن فيه الطلاب يقسّمون في المرحلة الثانوية الى «علمي» و «أدبي» كنت قد حسمت أمر مسيرتي الأكاديمية بأنني بالتأكيد لن ألتحق في المرحلة الجامعية بكلية تدرّس فيها أي مادة فيها «س» و «ص»، أو حتى أرقام صريحة، وهكذا قررت في مرحلة مبكرة من العمر أن الإنجليزية هي سلاحي الأكاديمي، وبالتالي ستكون سلاحي المهني بعد دخولي الحياة العملية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك