العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ليس للنجاح معيار ثابت (1)

قبل‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬اتصل‭ ‬بي‭ ‬زول‭ ‬أي‭ ‬سوداني‭ ‬طلق‭ ‬اللسان،‭ ‬وأبلغني‭ ‬انه‭ ‬بصدد‭ ‬اعداد‭ ‬كتاب‭ ‬بعنون‭ ‬‮«‬قصة‭ ‬نجاحي‮»‬،‭ ‬يتناول‭ ‬فيه‭ ‬سير‭ ‬شخصيات‭ ‬سودانية،‭ ‬‮«‬ناجحة‮»‬‭ ‬في‭ ‬تقديره‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬وطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬‮«‬نجاحي‮»‬،‭ ‬وفكرت‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬طويلا‭: ‬هل‭ ‬أنا‭ ‬ناجح‭ ‬بدرجة‭ ‬أن‭ ‬يطلب‭ ‬مني‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬تسجيل‭ ‬تجربتي‭ ‬علّها‭ ‬توقد‭ ‬شمعة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬بعض‭ ‬شباب‭ ‬الجيل‭ ‬الصاعد؟‭ ‬سأجيب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬لاحقا،‭ ‬بطريقة‭ ‬ملتوية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬والسبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬النجاح‭ ‬كلمة‭ ‬مطاطية،‭ ‬وقيمة‭ ‬مجردة‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬مكيال‭ ‬متفق‭ ‬عليه‭ ‬لقياسها،‭ ‬تماما‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬مشهور‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬الكلمة‭ ‬التي‭ ‬يوصف‭ ‬بها‭ ‬الشخص‭ ‬ذائع‭ ‬الصيت‭ ‬والمعروف‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬شهرة‮»‬‭ ‬تنجم‭ ‬عن‭ ‬أفعال‭ ‬وأقوال‭ ‬شائنة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬لائقة‭. ‬ومثل‭ ‬‮«‬السعادة‮»‬‭!! ‬لم‭ ‬يمر‭ ‬بي‭ ‬تعريف‭ ‬متفق‭ ‬عليه‭ ‬بشأنها‭: ‬هل‭ ‬السعيد‭ ‬صاحب‭ ‬المال‭ ‬أم‭ ‬مستور‭ ‬الحال‭ ‬صاحب‭ ‬العيال؟‭ ‬هل‭ ‬السعيد‭ ‬موفور‭ ‬الصحة‭ ‬و«مفلس‮»‬،‭ ‬أم‭ - ‬مثلا‭ - ‬الذي‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬شلل‭ ‬جزئي‭ ‬ويعيش‭ ‬حياته‭ ‬بالطول‭ ‬والعرض‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬طلب‭ ‬العون‭ ‬من‭ ‬أحد؟

ونسمع‭ ‬أن‭ ‬فلانا‭ ‬رجل‭ ‬أعمال‭ ‬ناجح‭!! ‬ناجح‭ ‬بمعنى‭ ‬ماذا‭ ‬وبأي‭ ‬منظور؟‭ ‬هل‭ ‬نجح‭ ‬لأنه‭ ‬مسنود‭ ‬ويحظى‭ ‬بامتيازات‭ ‬جمركية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬اللوائح‭ ‬والقوانين؟‭ ‬هل‭ ‬نجح‭ ‬لأنه‭ ‬حرامي‭ ‬أم‭ ‬عصامي؟‭ ‬وهل‭ ‬كون‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬اجتياز‭ ‬الامتحانات‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬محرزا‭ ‬نتائج‭ ‬عالية،‭ ‬يجعله‭ ‬مستحقا‭ ‬للقب‭ ‬‮«‬ناجح»؟‭ ‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬زيدا‭ ‬أو‭ ‬عبيدا‭ ‬‮«‬نجح‮»‬‭ ‬في‭ ‬الانتخابات،‭ ‬فهل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬أصوات‭ ‬الناخبين‭ ‬هو‭ ‬معيار‭ ‬النجاح؟‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأصوات‭ ‬بشراء‭ ‬الذمم؟‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬أثبت‭ ‬بعد‭ ‬فوزه‭ ‬بالمنصب‭ ‬الذي‭ ‬خاض‭ ‬الانتخابات‭ ‬لأجله‭ ‬أنه‭ ‬فاشل‭ ‬وجاهل‭ ‬وانتهازي؟‭ ‬خذ‭ ‬مثلا‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأسبق‭ ‬جورج‭ ‬دبليو‭ ‬بوش،‭ ‬الذي‭ ‬نجح‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬الرئاسية،‭ ‬وانقضت‭ ‬ولايتيه‭ ‬بنتائج‭ ‬كارثية‭ ‬على‭ ‬بلاده‭ ‬وبلدان‭ ‬أخرى‭. ‬بدد‭ ‬تريليونات‭ ‬الدولارات‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬عبثية‭ ‬في‭ ‬أفغانستان‭ ‬والعراق،‭ ‬لم‭ ‬يكسب‭ ‬منها‭ ‬ولا‭ ‬جولة‭ ‬واحدة،‭ ‬وترك‭ ‬الرئاسة‭ ‬وبلاده‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬ديون‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬خلخلة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الأمريكي‭ ‬من‭ ‬جذوره‭.‬

والشاهد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬الناس‭ ‬يمرون‭ ‬بمحطات‭ ‬نجاح،‭ ‬وأذكر‭ ‬هنا‭ ‬الرائد‭ ‬مأمون‭ ‬عوض‭ ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬الذي‭ ‬قاد‭ ‬وفدا‭ ‬مكونا‭ ‬من‭ ‬قادة‭ ‬انقلاب‭ ‬مايو‭ ‬1969‭ (‬الذي‭ ‬أوصل‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ ‬إلى‭ ‬كرسي‭ ‬الرئاسة‭ ‬في‭ ‬السودان‭) ‬لزيارة‭ ‬الرئيس‭ ‬المصري‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬ليبارك‭ ‬‮«‬ثورتهم‮»‬،‭ ‬وعاد‭ ‬ليقول‭ ‬لوسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬إن‭ ‬ناصر‭ ‬قال‭ ‬لهم‭: ‬إن‭ ‬النجاح‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬المحافظة‭ ‬عليها‭ ‬وتنفيذ‭ ‬البرنامج‭ ‬الذي‭ ‬وعدتم‭ ‬الناس‭ ‬تطبيقه‭. ‬أعني‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬قد‭ ‬ينجح‭ ‬أكاديميا‭ ‬عن‭ ‬جدارة‭ ‬ومن‭ ‬حقه‭ ‬أن‭ ‬يفرح‭ ‬بنجاحه،‭ ‬وقد‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬الفوز‭ ‬بوظيفة‭ ‬كان‭ ‬يحلم‭ ‬بها‭ ‬أو‭ ‬بمناقصة‭/ ‬عطاء،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬النجاحات‭ ‬قد‭ ‬تصبح‭ ‬قصيرة‭ ‬الأمد‭ ‬والأثر‭ ‬النفسي،‭ ‬لأن‭ ‬الحياة‭ ‬رحلة‭ ‬كلما‭ ‬طالت،‭ ‬كلما‭ ‬فاجأتك‭ ‬بمطبات‭ ‬وعثرات‭ ‬وكبوات،‭ ‬وفقط‭ ‬من‭ ‬يملكون‭ ‬أدوات‭ ‬النجاح‭ (‬العزيمة‭ ‬والمثابرة‭ ‬إلخ‭) ‬ينهضون‭ ‬وينفضون‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم‭ ‬غبار‭ ‬ووعثاء‭ ‬التعثر‭ ‬والسقوط،‭ ‬ويواصلون‭ ‬المشوار‭ ‬أو‭ ‬يغيرون‭ ‬المسار‭.‬

س‭: ‬هل‭ ‬كاتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬ناجح؟‭ ‬ج‭: ‬نعم‭ ‬بلا‭ ‬تردد‭ ‬أو‭ ‬تحفظ‭!! ‬س‭: ‬ما‭  ‬الإنجاز‭ ‬أو‭ ‬الإعجاز‭ ‬الذي‭ ‬يجعلك‭ ‬تحسب‭ ‬نفسك‭ ‬ناجحا؟‭ ‬ج‭: ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بإنجاز‭/‬إعجاز‭ ‬أو‭ ‬بطيخ،‭ ‬بل‭ ‬بالقناعة‭ ‬مقرونة‭ ‬بالإحساس‭ ‬المسنود‭ ‬بمعطيات‭ ‬موضوعية،‭ ‬بأنني‭ ‬حققت‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬الشخصي‭ ‬والعام،‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أظن‭ ‬أنني‭ - ‬وبخلفيتي‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والأكاديمية‭ -‬سأنجح‭ ‬في‭ ‬تحقيقها‭. ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬فإنني‭ ‬أعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬ناجحا‭ ‬لأنني‭ ‬قانع‭ ‬بما‭ ‬عندي‭ ‬ومتصالح‭ ‬مع‭ ‬ضميري،‭ ‬ومجرد‭ ‬قدرتي‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬‮«‬نجاح‮»‬‭!! ‬كيف؟‭ ‬سؤال‭ ‬جيد،‭ ‬لأن‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬أكتب‭ ‬بها‭ ‬الآن‭ ‬ليست‭ ‬لغتي‭ ‬الأم،‭ ‬فأن‭ ‬تكون‭ ‬مثلي‭ ‬نوبيا‭ ‬نشأ‭ ‬يتكلم‭ ‬لغة‭ ‬ليس‭ ‬بينها‭ ‬والعربية‭ ‬قواسم‭ ‬مشتركة،‭ ‬ثم‭ ‬تكتب‭ ‬بالعربية‭ ‬وتجد‭ ‬من‭ ‬يرحب‭ ‬بنشر‭ ‬ما‭ ‬تكتب،‭ ‬يقوم‭ ‬شاهدا‭ ‬على‭ ‬أنك‭ ‬نجحت‭ ‬بدرجة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬في‭ ‬اكتساب‭ ‬لغة‭ ‬جديدة‭ ‬جميلة،‭ ‬واستخدمتها‭ ‬للنهل‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬الغالبة‭ ‬في‭ ‬محيطك‭ ‬الجغرافي،‭ ‬ثم‭ ‬تسجيل‭ ‬ونشر‭ ‬خواطرك‭ ‬بتلك‭ ‬اللغة‭. ‬هذه‭ ‬شهادة‭ ‬من‭ ‬آخرين‭ ‬بأنك‭ ‬ناجح‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا