زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ليس للنجاح معيار ثابت (1)
قبل حين من الدهر اتصل بي زول أي سوداني طلق اللسان، وأبلغني انه بصدد اعداد كتاب بعنون «قصة نجاحي»، يتناول فيه سير شخصيات سودانية، «ناجحة» في تقديره في هذا المجال أو ذاك، وطلب مني أن أكتب عن «نجاحي»، وفكرت في الأمر طويلا: هل أنا ناجح بدرجة أن يطلب مني شخص ما تسجيل تجربتي علّها توقد شمعة في طريق بعض شباب الجيل الصاعد؟ سأجيب على هذا السؤال لاحقا، بطريقة ملتوية إلى حد ما، والسبب في ذلك أن النجاح كلمة مطاطية، وقيمة مجردة لا يوجد مكيال متفق عليه لقياسها، تماما مثل «مشهور» وهي الكلمة التي يوصف بها الشخص ذائع الصيت والمعروف على نطاق واسع، ولكن هناك «شهرة» تنجم عن أفعال وأقوال شائنة أو غير لائقة. ومثل «السعادة»!! لم يمر بي تعريف متفق عليه بشأنها: هل السعيد صاحب المال أم مستور الحال صاحب العيال؟ هل السعيد موفور الصحة و«مفلس»، أم - مثلا - الذي يعاني من شلل جزئي ويعيش حياته بالطول والعرض من دون طلب العون من أحد؟
ونسمع أن فلانا رجل أعمال ناجح!! ناجح بمعنى ماذا وبأي منظور؟ هل نجح لأنه مسنود ويحظى بامتيازات جمركية على حساب اللوائح والقوانين؟ هل نجح لأنه حرامي أم عصامي؟ وهل كون شخص ما قادرا على اجتياز الامتحانات الأكاديمية، محرزا نتائج عالية، يجعله مستحقا للقب «ناجح»؟ ويقال إن زيدا أو عبيدا «نجح» في الانتخابات، فهل الحصول على أكبر عدد من أصوات الناخبين هو معيار النجاح؟ ماذا لو حصل على تلك الأصوات بشراء الذمم؟ ماذا لو أنه أثبت بعد فوزه بالمنصب الذي خاض الانتخابات لأجله أنه فاشل وجاهل وانتهازي؟ خذ مثلا الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، الذي نجح مرتين في الانتخابات الرئاسية، وانقضت ولايتيه بنتائج كارثية على بلاده وبلدان أخرى. بدد تريليونات الدولارات في حروب عبثية في أفغانستان والعراق، لم يكسب منها ولا جولة واحدة، وترك الرئاسة وبلاده غارقة في ديون أدت إلى خلخلة الاقتصاد الأمريكي من جذوره.
والشاهد هو أن معظم الناس يمرون بمحطات نجاح، وأذكر هنا الرائد مأمون عوض أبو زيد الذي قاد وفدا مكونا من قادة انقلاب مايو 1969 (الذي أوصل جعفر نميري إلى كرسي الرئاسة في السودان) لزيارة الرئيس المصري جمال عبدالناصر، ليبارك «ثورتهم»، وعاد ليقول لوسائل الإعلام إن ناصر قال لهم: إن النجاح ليس في الاستيلاء على السلطة، بل في المحافظة عليها وتنفيذ البرنامج الذي وعدتم الناس تطبيقه. أعني أن الإنسان قد ينجح أكاديميا عن جدارة ومن حقه أن يفرح بنجاحه، وقد ينجح في الفوز بوظيفة كان يحلم بها أو بمناقصة/ عطاء، ولكن هذه النجاحات قد تصبح قصيرة الأمد والأثر النفسي، لأن الحياة رحلة كلما طالت، كلما فاجأتك بمطبات وعثرات وكبوات، وفقط من يملكون أدوات النجاح (العزيمة والمثابرة إلخ) ينهضون وينفضون عن أنفسهم غبار ووعثاء التعثر والسقوط، ويواصلون المشوار أو يغيرون المسار.
س: هل كاتب هذه السطور ناجح؟ ج: نعم بلا تردد أو تحفظ!! س: ما الإنجاز أو الإعجاز الذي يجعلك تحسب نفسك ناجحا؟ ج: الأمر لا يتعلق بإنجاز/إعجاز أو بطيخ، بل بالقناعة مقرونة بالإحساس المسنود بمعطيات موضوعية، بأنني حققت أشياء كثيرة على المستويين الشخصي والعام، ما كنت أظن أنني - وبخلفيتي الاجتماعية والأكاديمية -سأنجح في تحقيقها. بعبارة أخرى فإنني أعتبر نفسي ناجحا لأنني قانع بما عندي ومتصالح مع ضميري، ومجرد قدرتي على كتابة هذه الكلمات «نجاح»!! كيف؟ سؤال جيد، لأن اللغة التي أكتب بها الآن ليست لغتي الأم، فأن تكون مثلي نوبيا نشأ يتكلم لغة ليس بينها والعربية قواسم مشتركة، ثم تكتب بالعربية وتجد من يرحب بنشر ما تكتب، يقوم شاهدا على أنك نجحت بدرجة أو بأخرى، في اكتساب لغة جديدة جميلة، واستخدمتها للنهل من الثقافة الغالبة في محيطك الجغرافي، ثم تسجيل ونشر خواطرك بتلك اللغة. هذه شهادة من آخرين بأنك ناجح.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك