العدد : ١٦٨٤١ - الخميس ٠٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤١ - الخميس ٠٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ شوّال ١٤٤٥هـ

الثقافي

رحلتي ما بين المتنبي وأبي العلاء المعري

بقلم: إبراهيم الصايغ

السبت ٠٦ أبريل ٢٠٢٤ - 02:00

على‭ ‬متَّكأ‭ ‬الرِّحْلةِ‭ ‬الأخيرة،‭ ‬أُقلِّبُ‭ ‬آماليَ‭ ‬الحَالِمة،‭ ‬ونفسي‭ ‬المُتْعَبةُ‭ ‬في‭ ‬أمانيها‭ ‬الغائِمة،‭ ‬أعاينُ‭ ‬أيَّامِي‭ ‬وأحسِبُ‭ ‬آلاميْ،‭ ‬فكمْ‭ ‬غفْلةٍ‭ ‬أخذتني‭ ‬إلى‭ ‬شياطينها،‭ ‬وأبعدتني‭ ‬عن‭ ‬صلاحي‭ ‬بكيدها‭ ‬وغرورها،‭ ‬فكلَّما‭ ‬همِمتُ‭ ‬إلى‭ ‬إنجازِ‭ ‬عملٍ‭ ‬يخلِّدني،‭ ‬حبستني‭ ‬عنه‭ ‬سواجنٌ‭ ‬تقيّدني،‭ ‬فتضيع‭ ‬ساعاتُ‭ ‬اجتهادي‭ ‬في‭ ‬مكائدِ‭ ‬اللَّهو‭ ‬العابرة،‭ ‬وتُرخي‭ ‬عقلي‭ ‬بملذَّات‭ ‬الغرائز‭ ‬المدمِّرة،‭ ‬فأبقى‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أنا‭ ‬عليه،‭ ‬منطلقا‭ ‬على‭ ‬فرسِ‭ ‬الشَّهوات‭ ‬بلا‭ ‬عنان،‭ ‬هائم‭ ‬الهث‭ ‬وراء‭ ‬وهمٍ‭ ‬ودخان،‭ ‬كَالَّذِي‭ ‬اسْتَهْوَتْهُ‭ ‬الشَّيَاطِينُ‭ ‬فِي‭ ‬الْأَرْضِ‭ ‬حَيْرَان،‭ ‬يحرثُ‭ ‬في‭ ‬الملذَّات‭ ‬فلا‭ ‬يحصدُ‭ ‬من‭ ‬جوفهِا‭ ‬إلا‭ ‬الآفات،‭ ‬لا‭ ‬قناعة‭ ‬تُشْفِيه‭ ‬ولا‭ ‬متَّكأ‭ ‬يلوذُ‭ ‬به‭ ‬فيُرضيْه‭.‬

فكم‭ ‬حلمتُ‭ ‬أنْ‭ ‬تهجرني‭ ‬تلك‭ ‬الملذَّاتُ‭ ‬بذاتِها،‭ ‬فأحيا‭ ‬لبقاءِ‭ ‬العمل‭ ‬مهاجراً‭ ‬عن‭ ‬غوايتها،‭ ‬فلا‭ ‬أرى‭ ‬نفسي‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬ما‭ ‬يبقيني‭ ‬في‭ ‬ذاكرةِ‭ ‬الزَّمن‭ ‬البعيدِ،‭ ‬الذي‭ ‬شغل‭ ‬من‭ ‬قبلي‭ ‬شاغلُ‭ ‬الناس‭ ‬حين‭ ‬قال‭:‬

‭ ‬أُريدُ‭ ‬مِن‭ ‬زَمَني‭ ‬ذا‭ ‬أَن‭ ‬يُبَلِّغَني‭ ‬

ما‭ ‬لَيسَ‭ ‬يَبلُغُهُ‭ ‬مِن‭ ‬نَفسِهِ‭ ‬الزَمَنُ‭. ‬

ذلك‭ ‬الشَّاعرُ‭ ‬الذي‭ ‬اخترق‭ ‬الدهور،‭ ‬وهاجرَ‭ ‬باحثاً‭ ‬عن‭ ‬ملكه‭ ‬بينَ‭ ‬القصور،‭ ‬فترك‭ ‬صاحباً‭ ‬ورحَل‭ ‬لعدوٍ‭ ‬يمتدحهُ‭ ‬فعاد‭ ‬إلى‭ ‬أرضهِ‭ ‬مقتولا‭.‬

لم‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬إمارةٍ‭ ‬يحيي‭ ‬فيها‭ ‬سياسته،‭ ‬ولا‭ ‬وزارةً‭ ‬يشفي‭ ‬بها‭ ‬غليل‭ ‬شغفه،‭ ‬إلا‭ ‬أنَّه‭ ‬صنع‭ ‬من‭ ‬الكلمةِ‭ ‬مدرسةً‭ ‬لكلِّ‭ ‬من‭ ‬قصدَ‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬مراتبه،‭ ‬فشغل‭ ‬العقولَ‭ ‬حتى‭ ‬اختصمت‭ ‬في‭ ‬شأنهِ‭ ‬الفحول‭ ‬ومازال‭ ‬غيثاً‭ ‬يمطرُ‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬النحاة‭ ‬والبلغاء،‭ ‬شارحاً‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ميميَّته‭:‬

أَنامُ‭ ‬مِلءَ‭ ‬جُفوني‭ ‬عَن‭ ‬شَوارِدِها

وَيَسهَرُ‭ ‬الخَلقُ‭ ‬جَرّاها‭ ‬وَيَختَصِمُ‭.‬

صحبته‭ ‬في‭ ‬خلواتي،‭ ‬حتى‭ ‬تلبَّستُ‭ ‬هِمَمَهُ‭ ‬العالية،‭ ‬وحِكمهُ‭ ‬البالغة،‭ ‬وحياتهُ‭ ‬القلقة‭ ‬المتمردة‭ ‬الهائمة‭ ‬في‭ ‬ذاتها،‭ ‬وأعود‭ ‬وأنا‭ ‬عاجزٌ‭ ‬عن‭ ‬نيلِ‭ ‬ما‭ ‬نالهُ‭ ‬من‭ ‬فنٍ‭ ‬يستحيلُ‭ ‬أن‭ ‬يصنَعهُ‭ ‬إنسانٌ‭ ‬وهو‭ ‬تائهٌ‭ ‬في‭ ‬الملذات،‭ ‬عابرٌ‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬لاهثٌ‭ ‬وراء‭ ‬الشهوات،‭ ‬فما‭ ‬أقبح‭ ‬الدنيا‭ ‬حين‭ ‬تُرينا‭ ‬في‭ ‬الغرائزِ‭ ‬لذَّةً‭ ‬في‭ ‬عوراتِها،‭ ‬فننامُ‭ ‬على‭ ‬خزيٍ،‭ ‬ونصحو‭ ‬بلا‭ ‬وعيٍ،‭ ‬ونمضي‭ ‬بلا‭ ‬سبيل‭.‬

فإنه‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الساعي‭ ‬وراء‭ ‬الملك‭ ‬والإمارة،‭ ‬إلا‭ ‬أنَّهُ‭ ‬ساعٍ‭ ‬وراء‭ ‬قمة‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬رفعته،‭ ‬فمضى‭ ‬لنيلها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬المستحيل‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬الندم،‭ ‬فرَكِبَ‭ ‬سابحه‭ ‬عابراً‭ ‬القفار‭ ‬والأمصار،‭ ‬معجباً‭ ‬بذاته،‭ ‬حتى‭ ‬بالغ‭ ‬في‭ ‬تعظيمها‭ ‬قائلاً‭:‬

أمِط‭ ‬عَنْكَ‭ ‬تَشْبيهي‭ ‬بِما‭ ‬وَكأنَّه‭ ‬

فَما‭ ‬أحَدٌ‭ ‬فوقي‭ ‬ولا‭ ‬أحدٌ‭ ‬مثلي

لم‭ ‬تشغله‭ ‬متعة‭ ‬عابرة،‭ ‬ولم‭ ‬تستهويه‭ ‬غانيةٌ‭ ‬ساحرة،‭ ‬مشغول‭ ‬بذاتهِ،‭ ‬منطلقٌ‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬أمجادِه،‭ ‬فهو‭ ‬الصادق‭ ‬بقوله‭:‬

إِنّي‭ ‬عَلى‭ ‬شَغَفي‭ ‬بِما‭ ‬في‭ ‬خُمرِها

لَأَعِفُّ‭ ‬عَمّا‭ ‬في‭ ‬سَراويلاتِها

وَتَرى‭ ‬الفُتُوَّةَ‭ ‬وَالمُرُوَّةَ‭ ‬وَالأُبُو

وَةَ‭ ‬فِيَّ‭ ‬كُلُّ‭ ‬مَليحَةٍ‭ ‬ضَرّاتِها

هُنَّ‭ ‬الثَلاثُ‭ ‬المانِعاتي‭ ‬لَذَّتي

في‭ ‬خَلوَتي‭ ‬لا‭ ‬الخَوفُ‭ ‬مِن‭ ‬تَبِعاتِها

 

فإنَّك‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬سيرتهِ‭ ‬الترفُّع‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬غريزة‭ ‬تهين‭ ‬كيانه،‭ ‬وتنقص‭ ‬من‭ ‬همته،‭ ‬وتعطلُ‭ ‬أحلامه،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬عابثاً‭ ‬سافراً‭ ‬شارداً‭ ‬مع‭ ‬أهْوائِه،‭ ‬ليس‭ ‬لتبتل‭ ‬يدَّعيه،‭ ‬بل‭ ‬لعفَّةٍ‭ ‬فيه‭ ‬تمنعه،‭ ‬ورفعة‭ ‬وشموخ‭ ‬لا‭ ‬يعظمانِ‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬من‭ ‬بعُدَت‭ ‬عن‭ ‬الملذاتِ‭ ‬نفسُه،‭ ‬ليرفعها‭ ‬الى‭ ‬المقام‭ ‬السامي‭ ‬الذي‭ ‬يفاخر‭ ‬فيه‭ ‬قائلاً‭ ‬لحساده‭:‬

كَم‭ ‬تَطلُبونَ‭ ‬لنا‭ ‬عيباً‭ ‬فَيُعجِزُكُم

وَيَكرَهُ‭ ‬اللهُ‭ ‬ما‭ ‬تأتونَ‭ ‬والكَرَمُ

ما‭ ‬أبعدَ‭ ‬العيبَ‭ ‬وَالنقصانَ‭ ‬عن‭ ‬شَرَفي

أنا‭ ‬الثُّريا‭ ‬وذانِ‭ ‬الشيبُ‭ ‬والهَرَمُ

 

 

فأنا‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تكتملُ‭ ‬عندي‭ ‬الدرايةِ،‭ ‬ولم‭ ‬تصنعني‭ ‬الأحداث‭ ‬لنيلِ‭ ‬الغاية،‭ ‬إلا‭ ‬إن‭ ‬الهمَّة‭ ‬التي‭ ‬يحييها‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬جعلتني‭ ‬أركبُ‭ ‬همَّةً‭ ‬أكبرُ‭ ‬من‭ ‬جهدي‭ ‬وأعظم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحتملها‭ ‬عزمي،‭ ‬فجلست‭ ‬في‭ ‬أملٍ‭ ‬طويل،‭ ‬أخاف‭ ‬أن‭ ‬يعجبني‭ ‬قولي،‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬زللِ‭ ‬الغاوين‭ ‬أعبر‭ ‬بلا‭ ‬سبيل،‭ ‬فأكون‭ ‬مجرد‭ ‬عابث‭ ‬ركب‭ ‬ظهر‭ ‬البحر‭ ‬بسفينةٍ‭ ‬لا‭ ‬شراعَ‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬مجداف‭ ‬يحركها‭.‬

مازلت‭ ‬ألازمه‭ ‬وأقارن‭ ‬نفسي‭ ‬بعظمةِ‭ ‬نظمه،‭ ‬فأراني‭ ‬لم‭ ‬أصنع‭ ‬إلا‭ ‬غيا‭ ‬وابتذالا،‭ ‬فأعود‭ ‬خائباً‭ ‬مكتفياً‭ ‬بقراءته‭ ‬وقراءة‭ ‬الجهابذة‭ ‬من‭ ‬قبله‭ ‬وبعده،‭ ‬غافلاً‭ ‬عن‭ ‬القلم‭ ‬الذي‭ ‬جفَّ‭ ‬وهو‭ ‬ينتظرُ‭ ‬مني‭ ‬عزيمة‭ ‬تنفض‭ ‬غبار‭ ‬اليأس‭ ‬والقنوط‭.‬

وأنا‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬يقظة‭ ‬وصحوة،‭ ‬وإذا‭ ‬بمعلمي‭ ‬قد‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬عزلته،‭ ‬يناديني‭ ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬البائس‭ ‬قم‭ ‬من‭ ‬آلامك،‭ ‬فما‭ ‬أقبح‭ ‬الدنيا‭ ‬وأنت‭ ‬فيها‭ ‬مغبون‭ ‬في‭ ‬أيامك،‭ ‬جامد‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬ذاتك،‭ ‬قم‭ ‬فإن‭ ‬العمل‭ ‬سلاح‭ ‬البقاء،‭ ‬والكتابة‭ ‬نعمة‭ ‬يحيا‭ ‬بها‭ ‬الأدباء،‭ ‬قم‭ ‬ولا‭ ‬تترك‭ ‬الندم‭ ‬يصنع‭ ‬فيك‭ ‬الكآبة،‭ ‬واجعله‭ ‬عجلةً‭ ‬تحرك‭ ‬فيك‭ ‬الهمَّةَ‭ ‬والإرادة،‭ ‬فلن‭ ‬تصنع‭ ‬فيك‭ ‬الآمال‭ ‬الغاية،‭ ‬فعلى‭ ‬قدرِ‭ ‬عزمِ‭ ‬الرِّجال‭ ‬تتبدل‭ ‬الأحوال،‭ ‬ويخلق‭ ‬الله‭ ‬فيك‭ ‬همماً‭ ‬تزن‭ ‬بعظمة‭ ‬هيبتها‭ ‬الجبال،‭ ‬فانهض‭ ‬بنهوض‭ ‬صاحبنا‭ ‬الذي‭ ‬قال‭:‬

على‭ ‬قدر‭ ‬أهل‭ ‬العزم‭ ‬تأتي‭ ‬العزائم

وتأتي‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬الكرام‭ ‬المكارم

وتعظم‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬الصغير‭ ‬صغارها

وتصغر‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬العظيم‭ ‬العظائم

قم‭ ‬فما‭ ‬أقصر‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬الفانية،‭ ‬وما‭ ‬أطولها‭ ‬في‭ ‬القيمة‭ ‬التي‭ ‬تحييها،‭ ‬فاكشف‭ ‬ظلم‭ ‬الليل‭ ‬ببريق‭ ‬اجتهادك،‭ ‬واحبس‭ ‬هوى‭ ‬النفس‭ ‬بقدرة‭ ‬عزائمك،‭ ‬واجعل‭ ‬حبك‭ ‬لذاتك‭ ‬هو‭ ‬العطاء‭ ‬واعلم‭ ‬أن‭:‬

القلبُ‭ ‬كالماءِ‭ ‬والأهواءُ‭ ‬طافيةٌ

عليه،‭ ‬مثلَ‭ ‬حَبابِ‭ ‬الماءِ‭ ‬في‭ ‬الماءِ

والقولُ‭ ‬كالخلقِ‭ ‬من‭ ‬سيْءٍ‭ ‬ومن‭ ‬حسَنٍ

والناسُ‭ ‬كالدَّهْرِ،‭ ‬من‭ ‬نورٍ‭ ‬وظَلماءِ‭.‬

 

ذاك‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬الذي‭ ‬خملت‭ ‬عن‭ ‬نيل‭ ‬الشهوات‭ ‬عزائمه،‭ ‬وصعدت‭ ‬في‭ ‬أدراك‭ ‬العلا‭ ‬هممه،‭ ‬فراح‭ ‬في‭ ‬خلوته‭ ‬يثري‭ ‬الحياة‭ ‬بحكمه،‭ ‬ويرسم‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬سلاسل‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬تلمع‭ ‬بعبقريته،‭ ‬فأثرى‭ ‬بجواهره‭ ‬الأدب،‭ ‬حتى‭ ‬استفاقت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬منه‭ ‬الكلمات‭ ‬المتمردة‭ ‬على‭ ‬الحياة،‭ ‬فلم‭ ‬تستكن‭ ‬لغريزة،‭ ‬ولم‭ ‬تخضع‭ ‬لمغرياتها‭ ‬المميتة،‭ ‬فمضيت‭ ‬في‭ ‬رحلتي‭ ‬معه‭ ‬سائلاً‭ ‬الحكمة‭ ‬من‭ ‬أعمى‭ ‬أشرقت‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬قلبه،‭ ‬وخاطب‭ ‬العقول‭ ‬بمهجته،‭ ‬حتى‭ ‬لبس‭ ‬العقل،‭ ‬معتزلا‭ ‬البرية،‭ ‬مهاجرا‭ ‬لذاته‭ ‬الغنية‭.‬

كلانا‭ ‬عشق‭ ‬أبا‭ ‬الطيب‭ ‬وشرب‭ ‬من‭ ‬معين‭ ‬أدبه،‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬تائهٌ‭ ‬بلا‭ ‬صناعة‭ ‬أرتضيها‭ ‬لنفسي‭ ‬حتى‭ ‬أستسقي‭ ‬منهما‭ ‬فلسفة‭ ‬الحياة،‭ ‬فلا‭ ‬زلت‭ ‬تابعاً‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬نجاة،‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬ذاتي،‭ ‬لعلي‭ ‬أرى‭ ‬بذرة‭ ‬تنمو‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬فأعظم‭ ‬أمرها‭ ‬بالسقي‭ ‬الحثيث،‭ ‬وأبعد‭ ‬بجلالها‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬فعل‭ ‬خبيث،‭ ‬أما‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬الذي‭ ‬تشاءم‭ ‬مع‭ ‬المتنبي‭ ‬وثار‭ ‬على‭ ‬الدهر‭ ‬معه،‭ ‬أختلف‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬الغاية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬الطيب‭ ‬مقبلا‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬أمجاد‭ ‬لا‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬زمن،‭ ‬حتى‭ ‬احتار‭ ‬فيه‭ ‬الناس‭ ‬فقال‭:‬

يَقولونَ‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬أَنتَ‭ ‬في‭ ‬كُلِّ‭ ‬بَلدَةٍ

وَما‭ ‬تَبتَغي‭ ‬ما‭ ‬أَبتَغي‭ ‬جَلَّ‭ ‬أَن‭ ‬يُسمى

فلبس‭ ‬ما‭ ‬تلبس‭ ‬الملوك‭ ‬وسعى‭ ‬إليهم‭ ‬يزاحمهم‭ ‬في‭ ‬عروشهم،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬مدَّاحا‭ ‬للأعطيات‭ ‬وإن‭ ‬عظمت،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يسعى‭ ‬للملك‭ ‬وبناء‭ ‬سلطة‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬الأولى‭ ‬بها،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬بخيلا‭ ‬في‭ ‬أعطياته،‭ ‬ورغم‭ ‬هذا‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬عنده‭ ‬مهاجراً‭ ‬لكافور‭ ‬الذي‭ ‬تمنى‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬من‭ ‬عنده‭ ‬ما‭ ‬يتمناه‭ ‬من‭ ‬ملك،‭ ‬ففطن‭ ‬له‭ ‬كافور‭ ‬وحرمه‭ ‬الحلم‭ ‬الذي‭ ‬يتمناه،‭ ‬فهرب‭ ‬من‭ ‬سلطته‭ ‬هاجيا‭ ‬له‭ ‬ولأهل‭ ‬مصر‭ ‬جميعهم‭ ‬بقصيدته‭ ‬المشهورة‭:‬

عيد‭ ‬بأيَّة‭ ‬حالة‭ ‬عدت‭ ‬يا‭ ‬عيد‭ ‬

بما‭ ‬مضى‭ ‬أم‭ ‬لأمرٍ‭ ‬فيْك‭ ‬تجديدُ

،‭ ‬أما‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬فقد‭ ‬نقم‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬رافضا‭ ‬ملذَّاتها،‭ ‬منعزلاً‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ ‬وأهلها،‭ ‬فحرم‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬المتعة،‭ ‬وراح‭ ‬ينفر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬لذَّة،‭ ‬حتى‭ ‬هجر‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أحل‭ ‬الله‭ ‬له،‭ ‬فلباسه‭ ‬الخشن،‭ ‬وأكله‭ ‬الشعير،‭ ‬وشرابه‭ ‬الماء،‭ ‬وغطاؤه‭ ‬الحصير،‭ ‬حتى‭ ‬نحل‭ ‬جسمه‭ ‬كما‭ ‬نحل‭ ‬من‭ ‬قبله‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬صباه‭ ‬حين‭ ‬قال‭: ‬

كفى‭ ‬بجسمي‭ ‬نحولاً‭ ‬أنَّني‭ ‬رجلٌ‭ ‬

لولا‭ ‬مخاطبتي‭ ‬إيَّاك‭ ‬لَم‭ ‬تَرَني‭.‬

حياتي‭ ‬في‭ ‬دراستهم‭ ‬متعبة،‭ ‬وفي‭ ‬متابعة‭ ‬نفسياتهم‭ ‬مرعبة،‭ ‬فهم‭ ‬ليسوا‭ ‬مبدعين‭ ‬مضوا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أثروا‭ ‬المتون‭ ‬بعطائهم،‭ ‬بل‭ ‬نفوس‭ ‬احترقت‭ ‬لتنير‭ ‬من‭ ‬لهبها‭ ‬طريقا‭ ‬لمن‭ ‬سار‭ ‬بعدهم،‭ ‬فشراح‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬الذين‭ ‬كشفوا‭ ‬بعلمهم‭ ‬الوافر‭ ‬معانيه،‭ ‬وأعربوا‭ ‬وحللوا‭ ‬مبانيه،‭ ‬لم‭ ‬يتكلموا‭ ‬عن‭ ‬نفسيته‭ ‬الجبارة‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬تحليلية‭ ‬دقيقة،‭ ‬لأن‭ ‬النفسية‭ ‬القلقة‭ ‬الهائمة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أخرجت‭ ‬لنا‭ ‬ذلك‭ ‬الشاعر‭ ‬الحكيم‭ ‬المبدع،‭ ‬فقد‭ ‬مدح‭ ‬ملوكاً‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬القصد‭ ‬في‭ ‬مدحهم‭ ‬إلا‭ ‬نفسه،‭ ‬ووصف‭ ‬آخرين‭ ‬بالبلاغة‭ ‬والفصاحة‭ ‬والكياسة‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬كلماته‭ ‬يشرح‭ ‬أوصافه‭.‬

‭ ‬تأثرت‭ ‬به‭ ‬وبتلميذه‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬تأثراً‭ ‬نفسياً‭ ‬حتى‭ ‬تعب‭ ‬عقلي‭ ‬في‭ ‬فهمهم،‭ ‬وضاع‭ ‬تدبير‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬شخصياتهم،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬كياني‭ ‬في‭ ‬متونهم‭ ‬فأجد‭ ‬نفسي‭ ‬قائلاً‭:‬

نوادِبُ‭ ‬قلبِي‭ ‬للنوائِبِ‭ ‬سامرُ

تنوحُ‭ ‬لها‭ ‬بين‭ ‬الضلوعِ‭ ‬زماجرُ‭ ‬

بنفسٍ‭ ‬إذا‭ ‬هاجَ‭ ‬الضرامُ‭ ‬بجوفها

تنفَّس‭ ‬جرحٌ‭ ‬في‭ ‬وريدي‭ ‬خامرُ

يثورُ‭ ‬بلوعاتِ‭ ‬المصيبة‭ ‬كلما‭ ‬

أتاهُ‭ ‬من‭ ‬المولى‭ ‬المعظَّم‭ ‬ذاكرُ

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا